ينبع نهر “يلوستون” Yellowstone River من قمم المنتزه الوطني المسمى باسم النهر في غرب الولايات المتحدة الأميركية Yellowstone National Park، والممتد على مساحة 350 ألف ميل مربع تقريبا، ويصل طوله إلى 1,130 كيلومترا (700 ميل)، ليشكل أحد الروافد الرئيسية لنهر ميسوري Missouri River، قاطعا مساحة شاسعة ذات معالم طبيعية هامة في جنوب ولاية مونتانا Montana وشمال ولاية وايومنغ Wyoming، منها جبال الروكي الشهيرة Rocky Mountains، وقد يكون سبب تسميته بهذا الإسم نسبة إلى الألوان الصفراء للصخور في “غراند كانيون” Grand Canyon وهو الترجمة للإسم الفرنسي Roche Jaune الذي كان يطلق عليه في القرن التاسع عشر.
تنوع بيولوجي
يزخر هذا النهر بتنوع بيولوجي هام من النباتات والحيوانات، وهناك عدد كبير من الأنواع المستوطنة، فضلا عن جهود البيئين التي نجحت بإعادة توطين الذئب الرمادي منذ العام 1995، ما مكنهم من توثيق استعادة توازن بيئي متكامل للمنطقة، وهذا النهر يتميز بأنه النهر الوحيد الذي لا يقوم عليه أي سد.
إلا أنه في آب (أغسطس) من العام الماضي، تصدر هذا النهر عناوين الصحف المحلية والعالمية، عندما اجتاح وباء السمك الأبيض في النهر، وتسبب بنفوق آلاف الأسماك، وخوفا من انتشار المرض إلى أماكن أخرى من النهر، أقفل المسؤولون في ولاية مونتانا النهر أمام الصيادين والطوافات الخشبية Rafters والقوارب في ذروة الموسم وسمك السلمون في أوج فترة تكاثره، ومع عودة الصيد في الخريف، تبين أن هذا الوباء الناجم عن “طفيل” قد انتشر إلى العديد من الممرات المائية في ولاية مونتانا.
دراسة علمية
وقد يبدو وجود هذا الطفيلي الدخيل أمرا عاديا، ولكن في دراسة حديثة نشرت في الدورية العلمية Science Advances ، جمعت جنبا إلى جنب مجموعة من الباحثين من مختلف التخصصات، من علماء الأحياء المختصين بدراسة الدب الأسمر Grizzly bear، وعلماء الطيور، والعلماء المختصين بذوات الحوافر والبيئيين، وقد فوجئ الباحثون بأن عددا كبيرا من الأنواع يعتمد اعتمادا كبيرا على التنوع البيولوجي الموجود في النظام البيئي في “يلوستون”، وليس الأسماك والأحياء المائية الأخرى فحسب.
واستخدم في الدراسة نموذج يمثل نهرا قاعه من الحصى يشبه “يلوستون”، وقد صوّر الباحثون سيناريو أكثر تعقيدا، ويتعلق بمجموعة الأنشطة البشرية التي تساهم في تدهور الأنظمة النهرية، ما يجعلها أكثر عرضة للتأثيرات الخارجية المدمرة مثل الطفيليات، وهذه الدراسة الجديدة اشتملت أيضا على مجموعة من البيانات والأبحاث على مدى 40 عاما تم تلخيصها في الدراسة الحديثة، بشكل يعيد فهم ديناميكيات البيئة في هذه الأنهار، ويلقي الضوء بشكل يدين الأنشطة البشرية التي تؤذي الأنهر مثل بناء المنازل، بناء السدود، والري، وإعادة توجيه المياه التي يمكن أن تخنق ببطء نظم الأنهر الديناميكية للغاية، وبالتالي التنوع البيولوجي.
ديناميكية المياه المتغيرة
وعلى الرغم من أن “يلوستون” نهر دون سدود، فقد تم تحويل مياه “يلوستون”، على سبيل المثال، لأغراض الري، وتم تغيير مجرى النهر للسيطرة على الفيضانات مع وضع حواجز صخرية Riprap للتيارات النهرية، لتثبيت الأراضي ووقف عوامل التعرية، إلا أنه يمكن لهذه الأنشطة البشرية وغيرها أن تبطئ وتغير تدفق النهر، والأهم، أن تغيرا طرأ على التفاعل المعقد بين سطح النهر والتيارات العميقة في القاع المليء بالحصى، وهذه التعديلات التي يدخلها الإنسان على النهر يمكن أن تضعف ديناميكيته ومرونته، خصوصا مع اقترانها بارتفاع درجات الحرارة الناتجة عن تغير المناخ، وانخفاض كمية المياه بسبب زيادة التبخر والري خصوصا لهذه الأسماك في مناطقها المميزة بالبرودة.
وفي الواقع، تسهم هذه الأنشطة البشرية المتنوعة والكثيرة بإضعاف “جهاز مناعة” الأنهار مثل “يلوستون”، ما يجعل الكائنات المائية أكثر عرضة للإجهاد، ويمكن الطفيليات بالتالي من إصابة الأسماك والتسبب بنفوقها، وقالت الدراسة أن هذه التغيرات الضارة تواجهها معظم الممرات المائية في غرب أميركا الشمالية وفي نظم الأنهار الجبلية الأخرى، بما في ذلك أوروبا، والأنديز، جبال الهيمالايا، وأعالي الجبال في نيوزيلندا.
وقال البروفسور في علم المياه العذبة والبحيرات وعلم الغابات في “جامعة مونتانا” ريتشارد هاور Richard Hauer وأحد مؤلفي الدراسة الرئيسيين “على الرغم من أن شواطئ هذه الأنهر لا تشكل إلا 3 بالمئة من المساحة الكلية لوديان هذه الأنهر، فإن ثلثي الكائنات الحية تقضي جزءا من حياتها في هذه السهول الشاطئية”، وبالفعل وعلى سبيل المثال، فإن حوالي 70 بالمئة من الطيور في وديان الأنهار الجبلية، تعتمد على الموائل التي تم إنشاؤها من قبل النظام النهري.
وفي النموذج الجديد في دراسة Science Advances، فإن ذوبان الثلوج وتدفق المياه الجوفية تشكل المياه في قناة النهر، ولكن الغالبية العظمى من المياه تسير على نحو أبطأ بكثير في عمق نظام خلال شبكات سرية معقدة من الحصى والرمال، والتي تشكل قاع الوادي بأكمله، من قاعدة سلسلة جبال إلى أخرى.
وهذا الموطن الجوفي فيه من التنوع من الناحية البيولوجية أكثر بكثير مما كان يعتقد سابقا، ويعد موطنا للميكروبات والحشرات المائية، مثل Stoneflies، وتعتبر هذه الحشرة بالغة الأهمية لسلسلة الغذاء النهرية، وتتدفق المياه باستمرار من خلال صفوف الصخور والرمال، التي ترشح المواد العضوية والنيتروجين والفوسفور، وغيرها من العناصر الغذائية بشكل جيد خلال النظام بأكمله. ثم يتم توفير هذه العناصر الغذائية للنباتات والحشرات على السطح بما يمكن وصفه كـ “دفعة أدرينالين بيولوجية”a jolt of biological adrenaline ، ويعتبر هذا النبض الحيوي من المغذيات، أساس السلسلة الغذائية، وهو ما يخلق التنوع البيولوجي في الوادي بأكمله، ليغذي أشجار الصفصاف Willow، الحور Cottonwood والحور الرجراج Aspen وغيرها، وهي بدورها تجتذب الطيور والقنادس والأيائل والوعول، التي تجتذب الحيوانات المفترسة مثل الذئاب والدببة الرمادية Grizzly Bear الضخمة.
وشكلت الدراسة الحديثة نموذجا موسعا ومفصلا لأنظمة البيئة النهرية أكثر بكثير من السابق، وحتى العام 1970 أي تاريخ بدء العمل في هذا البحث كان يُعْتَقَد أن منطقة Hyporheic Zone (وهي المنطقة المسامية من الترسبات التي يتم فيها تبادل المغذيات)، تقع ضمن متر من قاع النهر، ولكنهم تأكدوا أنها تشمل الحيز الأكبر من وادي الأنهر، وتؤثر بشكل كبير على درجة حرارة المياه، وتدوير المواد الكيميائية البيولوجية، لذا فتأثيرها كبير على كامل التنوع البيئي في الأنظمة النهرية.
ويشكل التغير في شبكات النظام النهري مساحة إضافية لتكاثر الحشرات التي تغذي الأسماك، كما أن التفاعل الحراري بين السطح والقاع أساسي للتنوع البيولوجي، حيث تُخَـزَّن الحرارة الباردة في الصخور والحصى لتبرد سطح المياه خلال فصل الصيف، بالمقابل، فإن برك المياه الساخنة تدفئ المياه خلال الصيف لتوفر موئلا للأسماك والمخلوقات النهرية الأخرى.
البحث عن أسباب الوباء
ويلعب هذا المزيج من المياه دورا في الوقاية من المرض، وهو جزء من مشكلة توغل الطفيليات في “يلوستون”، فعمليا يتم سحب المياه لأغراض الري وتثبيت الحواجز الصخرية وتسمى Riprap لتقليل الاختلاط بين المياه الجوفية ومياه النهر، وهذا يعني تخزين كميات أقل من المياه الباردة في الحصى لتبريد النهر في الصيف وتدفئته في فصل الشتاء.
وقال هاور: “هناك مجموعة كاملة من الأمور السيئة حقا يمكن أن تحدث نتيجة هذا الإنهاك البيئي الذي يؤثر تأثيرا مباشرا على مصايد الأسماك”، وأضاف: “فالسمك يجتمع في المياه الدافئة ويزيد تمثيلها الغذائي في المياه الدافئة، وإن لم تكن قادرة على تناول الطعام بما يكفي، فتعتل حالتها الصحية ما يجعلها عرضة للإصابة بالأمراض، فالازدحام في المياه الباردة في الصيف يجعلها عرضة أكثر للطفيليات، كما أن الطفيليات تزداد في المياه الدافئة”.
الوباء
وأشار العلماء إلى أن المياه الأكثر دفئا، والأنهار البطيئة باعتبارها السبب المحتمل لنفوق الأسماك الجماعي، أما “الجاني” فهو طفيل مجهري على شكل كبسولة اسمه العلمي Tetracapsuloides bryosalmonae، ويزدهر في المياه الدافئة نتيجة النشاط الإنساني وآثار تغير المناخ، بينما تصبح الأسماك أشد ضعفا وأكثر إجهادا، وتغزو هذه الطفيليات الأسماك من خلال خياشيمها، متسببة في نهاية المطاف بنفوقها.
ويصيب هذا المرض كلى الأسماك، ويعرف باسم Proliferative kidney disease أو (PKD)، وقد نفق نتيجة الإصابة به الكثير من السلمون المستزرع على مدى عقود، وفي السنوات العشرين الماضية، ألحق هذا الطفيل أضرارا جسيمة في سمك التراوت البري Wild Trout في النمسا وألمانيا وسويسرا، كما تسبب بنفوق سمك السلمون Salmon في النرويج وسمك الشار القطبي Arctic Char في ايسلندا، حيث تشير الدراسات إلى تفشي المرض وارتباطه مع درجات حرارة المياه الأكثر دفئا، وقد عزا العلماء سبب تفشي المرض في مونتانا إلى تيارات المياه البطيئة وارتفاع درجات الحرارة التي سجلت في أحد الأجزاء 15 درجة أكثر مما هو مناسب لهذه الأسماك.