فيما تأخذنا راهنية الحدث في “الكوستابرافا” إلى تفاصيل طغت بطابعها الفضائحي على ما عداها من أمور، ما تزال رؤية المسؤولين لمشكلة النفايات المنزلية الصلبة في لبنان محكومة بسقف “المحارق”، وهذا ما سيتبدى مع انتهاء مفاعيل خطة الطوارىء التي اعتمدتها الحكومة السابقة، ولم يتوان أولو الأمر عن تجميل خيار المحارق تمهيدا لتمريره لاحقا تحت ضغط “الضرورة”، كحل لمشكلة النفايات في لبنان، بالاستناد إلى ما سبق لجهة التخلي عن اعتماد حل بيئي وصحي سليم لا يتناسب بالطبع مع ما يخططون ويروجون وسيروجون.
هم باختصار والى الآن، كل ما فعلوه انهم حولوا النفايات المنزلية غير الخطرة الى كوارث شديدة الخطورة، ان كان على البيئة أم على صحة المواطن، والآن هم يهددون السلامة العامة للطيران بانتهاجهم أسوأ الممارسات مع اعتماد موقع ملاصق للمطار مكبا للنفايات، دون مراعاة الشروط القانونية والاعتبارات العلمية والفنية، فضلا عن الترويج للمحارق، وبعضها جاهز وينتظر، وكأنها الخلاص المنشود، ليخفوا وراء ما صوروه كل الحقائق العلمية التي يجهلها الكثير من اللبنانيين، لذلك يعمل بعض القيمين من ناشطين وجمعيات وخبراء وغيرهم على نشر الوعي حول خطورة هذا الخيار، بطريقة علمية صحيحة، من خلال حملات وندوات وريبورتاجات ومقالات وفيديوهات بدأت تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي ضد كافة الممارسات التي تهدد حياتنا.
حاول greenarea.info الإضاءة على المحارق، أنواعها، أخطارها، ومحاذير استخدامها في بلد مثل لبنان يتسم بضيق مساحته، فضلا عن تفاصيل متصلة بما تخلف من سموم شديدة الخطورة على البيئة والصحة والمناخ.
د. قديح: مغامرة كارثية
وفي هذا السياق، التقى الخبير البيئي في مجال علوم الكيمياء والسموم والمستشار في greenarea.info الدكتور ناجي قديح، فقال بداية: “هذا ما ينتج عن عملية الحرق، وهذه هي نتائجه علميا: معادن ثقيلة مواد كيميائية مخلقة، وبنتيجة عمليات التكسير والتفاعلCracking تتشكل أثناء الإحتراق كميات هامة من مركبات أكثر سمية (تركيب مواد جديدة)”.
وأضاف: “الملوثات ثلاث فئات، ومن الملوثات الأكثر أهمية، إضافة لغازات الاحتراق العادية: 1-الجسيمات (PM10, PM2.5, PM0.1) Particulate matters، 2- المعادن الثقيلة، 3- نواتج الاحتراق من مواد كيميائية مخلقةDioxins, Furans PCACs, PCBs etc. غازات الاحتراق العاديةCO2, CO, SO2, NOx, VOCs”، وتابع قديح: “المعادن الثقيلة والمواد الكيميائية السامة تتكثف على الجسيمات لتصبح حاملة لخصائص عالية السمية والخطورة على الصحة العامة، ومنها الجسيماتParticulate matters : يتولد عن المحارق نوعان من الرماد الرماد المتطايرFly Ash ، يتكون من جسيمات صغيرة ومتناهية الصغر، معظمها لا يرى بالعين المجردة، الرماد المتبقي أو رماد القاع Bottom Ash، يتكون من جسيمات كبيرة الحجم نسبيا، الجسيمات بقياس PM10 أو أكثر، تقاس بالوزن، الجسيمات الصغيرة ومتناهية الصغر PM2.5 & PM0.1 غير مرئية بالعين المجردة، تقاس بالعدد وليس بالوزن، توضع الفلاتر لالتقاط الجسيمات المكونة للرماد المتطاير أحدث وأهم الفلاتر المستعملة في البلدان الصناعية المتقدمة تكون: فعالة في التقاط الجسيمات متوسطة الحجم PM10 وأكبر، ضعيفة الفعالية في التقاط الجسيمات الصغيرة PM2.5، تلتقط فقط بين 5 و 30 بالمئة منها، غير فعالة بالمطلق حيال الجسيمات متناهية الصغرPM0.1 2- ، المعادن الثقيلةHeavy Metals ، معادن ثقيلة سامة: الموجودة في النفايات في المواد البلاستيكية في بعض المركبات الكيميائية أهمهاCd, Cr, Pb, Hg 3- ، الملوثات الكيميائية العضويةPCACs, PCBs, Dioxins and Furans (chloro and bromo), Phthalates, Ketones, Aldehydes, organic acids, Alkenes ، تتميز بـ: الاستقرارStability ، الثباتPersistence، القدرة على التراكم الحيويBioaccumulation ، هذه الميزات الثلاث تحدد خطورتها العالية البيئية والصحية، الآثار الصحية خلل في جهاز المناعة، تخريب لجهاز الغدد الصماءEDCs تأثيرات على الجينات (الطفرات)Mutagenic effect ، تأثيرات مسرطنةCarcinogenic effect، تأثيرات سامة على الجهاز العصبيNeurotoxic effect ، تأثيرات على القدرة الإنجابية Reproductive effect وتأثيرات مسخيةTeratogenic effect”.
وعرض قديح للمخاطر على النحو الآتي:
1-الآثار الصحية للجسيمات: الجسيمات الصغيرة ومتناهية الصغر هي الأخطر على الصحة العامة، تتفلت من المصافي وأجهزة مراقبة التلوث، وتنبعث في الجو، تدخل مباشرة إلى عمق الرئتين فتصل إلى الحويصلات الرئوية Alveoli وتتراكم هناك، وتنتقل إلى الدورة الدموية، ومنها إلى كل أعضاء الجسم، تتفاعل مع الحمض النووي وتسبب تخريبات تؤدي إلى السرطان، لا مستويات آمنة للجسيمات الصغيرة ومتناهية الصغر عالية التفاعلية الكيميائية والنشاط السطحي، عددها كبير جدا في وحدة الوزن، تتكثف عليها المعادن الثقيلة والمركبات الكيميائية السامة، فتصبح حاملا لها إلى كل أعضاء الجسم وإلى داخل الخلايا، تسبب الأمراض القلبية والشرايين وسرطان الرئة، وتؤثر سلبا على نمو الجنين.
2- الآثار الصحية للمعادن الثقيلة رئوية قلبية وسرطانية: هناك 35 نوعا من المعادن الثقيلة في انبعاثات محارق النفايات، بعضها معروف بنشاطه المسرطن بتراكيز صغيرة جدا تتراكم في الجسم وتسبب أمراض: العظام، الدم، الكليتين والكبد. الزئبق: سم عصبي، له علاقة بالألزهايمر والتخلف العقلي وصعوبة التعلم والتوحد. النيكل والبريليوم والكروم والكادميوم والزرنيخ تحمل خطورة الإصابة بسرطان الرئة.
3- الآثار الصحية للملوثات الكيميائة العضوية تتراكم في الجسم البشري وأجسام الحيوانات والبيئة، وتستقر لسنوات طويلة، التعرض لتراكيز متناهية الصغر، أي بضعة أجزاء من بليون أو ترليون تسبب: سرطان الثدي، العقم عند الذكور والإناث، سرطان الخصيتين، تخريب الغدد الصماء، تأثيرات أخرى تغير بجهاز المناعة، تأثيرات على المادة الجينيةMutagenic effect ، تخريب رئوي وكبدي، تأخر عقلي وحركي. الديوكسينات: سرطان الجلد والرئة والكبد والأنسجة الرقيقة، وسرطان الفم والتجاويف الأنفية.
وخلص قديح إلى أن “هذه الحقائق لم يتطرق لها المعنيون بتمرير صفقات المحارق، ويجهلها ايضا الكثير من المواطنين، هي حتما مجازفة مرعبة علينا جميعا أن ندرك وأن نعرف بكامل المسؤولية المدنية والأخلاقية، بل والقانونية أيضا، أن أي خلل في استكمال كل حلقات منظومة المحرقة، أو خلل في حسن وسلامة تشغيلها، أي منظومة التقاط الجزيئات والفلاتر، ومنظومة غسل الغازات ومعالجة السوائل الناتجة عنها، وتصليب الرماد المتطاير وطمره في مطمر خاص لاستقبال النفايات الخطرة يتم إنشاؤه خصِّيصا ملحقا بالمحرقة، سيشكِّل مغامرة كارثية بمخاطرها على صحة المواطنين في بيروت وعموم لبنان”.
نجيم: ضرب من الجنون
وقال الناشط البيئي والمدني رجا نجيم: “ما لا تُخبرنا به الإدارات الرسمية عندما تحاول اقناعنا بالمحارق متذرّعة بأنها تقنية تستعمل في اوروبا، أنه في اوروبا نفسها هناك معارضة قوية ضدها، ففي فرنسا قررت وزيرة البيئة الغاء قسم من هذه المحارق، وفي اليابان منعت المحارق الصغيرة مثل محرقة ضهور الشوير وما شابهها، والتي بدأ يروج لها في لبنان بالرغم انها تُشبه أكثر “صوبيا كبيرة” وتتسبب بمخاطر عدّة على بيئتنا وصحّتنا، نظراً إلى انّه تحرق فيها نفايات منزليّة، بالاضافة الى انهم لا يخبروننا ايضا بأنه في مناطق من جنوب اوروبا حيث نسبة إنتاج النفايات العضوية مرتفعة، كما هو الحال في لبنان، يتم استبدال محارق النفايات لإنتاج الطاقة بمعامل للهضم اللاهوائي (المواد العضويّة)، ولا يتطرقون يوماً للأصول والمعايير التي على أساسها يجب تصنيع وتركيب هذه المحارق، بل يحصرون دوماً الموضوع بالفلاتر وما شابه كما تفعل اليوم بلدية بيروت، مع العلم ان التشغيل والصيانة والمعالجة الصحيحة والدائمة والمراقبة المستمرة هي الاهم، خصوصا انّ عمليات حرق النفايات تتمّ بشكل مباشر بواسطة هذه التقنيّة إن كان يلحقها إنتاج طاقة أم لا، نظراً إلى انّه من جراء هذا الحرق الشبه كامل للنفايات تتكوّن أنواع مختلفة من الملوثات الخطرة وسواها”.
ورأى نجيم أن “أي تقاعس في اي مرحلة من المراحل، وهذا ما اشتهرت به اداراتنا، سوف يسبب كوارث بيئية وصحية خطيرة، تضاف الى قائمة المخاطر الكبيرة التي تسببها عادة هذه المحارق عند تشغيلها، من غازات ورماد ملوث بمواد خطيرة تؤدي في طبيعتها الى السرطان وامراض مزمنة وتشوهات خطيرة، وزيادة في انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون نسبة لكوكب الأرض وفي المخاطر الصحيّة الكبيرة من جراء انبعاثات الجُزئيّات الصغيرة جداً وتراكمها في جسم الإنسان على أثر تنشّقها”.
وأضاف: “كل هذه النتائج السلبية التي لا نملك لها حلا سترفع حتما من نسبة المصائب التي نتكبّدها، ونحن بغنى عنها، كوننا نعيش اصلا في جو ملوث لأقصى الحدود، بشكل عام اداراتنا التي هي دون مستوى التطبيق الى اليوم، تحاول اقناعنا بأنها تنتهج حلولا علمية متطورة، لكن من المؤسف أنها في الواقع تقوم بتضليلنا، فهذه الحلول لا تأخذ أبداً بتطوّر العلم، إذ هي من جهة غير قائمة نهائيّاً على أولوية مبدأ الوقاية والاحتراز، ومن جهة أخرى لا تعتمد مبدأ “كلّ ملوّث يدفع”، بل هي في خدمة الملّوث، تحميه وتبرر له أفعاله بدل تغريمه وحماية المواطن من المخاطر والاضرار، والمخجل أيضا انها تستحدث تقنيات مر عليها الزمن منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، والكلام عن جيل رابع بخصوص هذه المحارق كما يتمّ عرضه اليوم لا ينطبق سوى صناعيّاً، إذ نسبة لحماية البيئة وسلامة وصحّة الإنسان تبقى هذه التقنيّة، وخصوصا في لبنان ليس فقط دون المستوى، بل بعكس “طبيعة الحياة اللبنانية” والعيش في هذا الوطن مهما تمّ الإدعاء بتركيب أفضل الفلاتر لها”.
وقال نجيم: “الفضيحة الأكبر هي في الزامنا بكلفة هذه المحارق المستعملة والمجددة مع اكسسواراتها بما يعادل خمس مرات ثمنها الحقيقي، لتمرير صفقات مربحة للبعض على حساب سلامتنا وصحتنا وبيئتنا وجيوبنا، كما تحاول اليوم بلدية بيروت القيام به، لكننا لن ندعها”،
ورأى ان “الحل بالنسبة للبنان ليس بحرق النفايات ابداً، وبالتأكيد ليس باعتماد تقنيّة الحرق المباشر لها، بل هو بالعودة الى الطبيعة والارض ولأولويات الهرم العالمي والمحلي لادارة هذا الملف الذي لم يتضمن في مراحل المعالجة اي من المطامر والمحارق، بل اعتمد على التخفيف واعادة الاستعمال والفرز والتدوير والتسبيخ والهضم اللاهوائي، بحيث يتم انتاج طاقة بواسطة غاز الميثان الذي يتمّ تجميعه من عملية هضم المواد العضوية، وأخيراً على إعادة تأهيل المقالع والكسارات والمواقع الطبيعية المُشوّهة، وبعدها يمكن ان يأتي تحويل أي قسم متبقٍّ من العوادم غير العضويّة الى طاقة، فقط في حال وجود جدوى منه، إذ ان البدائل عديدة، ومنها إستعمالها في تصنيع الألواح البيئية “إيكو بورد” وهو إبتكار لبنانيّ من مهندس لبنانيّ، او في حال الفرز الثانويّ الصحيح، يمكن ان يتمّ فرمها بمقاسات صغيرة جدّاً وخلطها في جبالات الباطون واستعمالها ضمن الأرصفة، وحتّى كردميات بحسب قوالب غب الطلب”.
واعتبر أن “الحرق كحل اذا كان مناسبا لبعض بلدان الغرب، فهو غير مناسب نهائيّاً للبنان نظرا للاختلاف في تكوين النفايات، ففي لبنان حيث تغلب نسبة النفايات العضوية وتتراوح ما بين 50 و75 بالمئة بحسب المناطق، من مجموع النفايات التي يتمّ تجميعها ولمها، فبفعل الحرق سوف تهدر أقلّه قيمة 50 بالمئة من هذا المجموع، وتضيع علينا فرصة تعويض التكلفة الاساسية، لان حوالي 70بالمئة من وزن النفايات العضويّة هي عبارة عن رطوبة أي ماء وستتبخر”.
وأردف نجيم: “لن يلغى الطمر في حال اللجوء الى الحرق، فنسبة لبيروت تبقى المشكلة كما هي، وليس لدينا مواقع صالحة لطمر الرماد الخطر المتبقي من الحرق (نسبة 20 بالمئة)، ولا مختبرات مجهزة لفحص الملوثات الخطرة، أما عن محاولة تغرير اللبناني بتعويض الخسارة بإنتاج كهرباء من الحرق، فما ينتج عن الحرق من كمية كهرباء هي كافية لتشغيل معمل الحرق وانارته، كما بعض الجوار فقط، وعن انتاج حرارة او غاز للتدفئة فهذا محض فلسفة من خبراء اجانب لا يعلمون شيئا عن طبيعة لبنان ومناخه واحتياجاته وتجهيزاته، فلا حاجة لنا بهذا المنتج ولسنا حتّى مُجهّزين للتمكّن من اللجوء اليه، الا اذا كنا نعيش في القطب الشمالي او في الدانمارك والنروج… ولا نعلم”.
وقال: “يجدر بالذكر انه ضمن نفاياتنا المنزلية مواد خطرة كالزئبق مثلا، ومواد لا تصلح أبداً للحرق كالبطاريات وغيرها، والنفايات المعدية المعقمة الصادرة من المستشفيات والمؤسسات المشابهة.
ونظرا لغياب المراقبة، فبالنتيجة اذا درسنا الامر من كل جوانبه نحن بغنى عن “محارقهم” كما عن “مطامرهم” التي لا تندرج تحت اسم حل بأي شكل من الاشكال، ولا تصلح لأن تكون عنواناً لأيّ منه، فاعتمادها من قبل القيّيمين هو أقلّه “ضرب من الجنون” خصوصاً في المدن المأهولة كبيروت وضواحيها ونتيجة مقاربة “جبانة” وخطرة جدّاً مهما إتّخذ كإحتياطات، كما اننا لن نسمح بتمرير هذه الصفقات وتحويلنا باستمرار لفئران تجارب تفشل في كلّ مرة وتجعل من الشعب يدفع الثمن دوماً”.
وختم نجيم: “وطننا مفلّس، بيئتنا معدومة والأمراض والميكروبات المضرّة تجتاحنا “والخير لقدام”، كل هذا بسبب خططهم الفاشلة التي لا تزال قائمة اليوم ضمن ما يُسمّى “بالعهد الجديد”، إضافة لعدم رغبتهم للتغيير الصحيح، فقد أصبح الوضع في وطننا مُذرٍ لدرجة انه وصل الى “حدّ اللارجعة”، والحلّ الوحيد السليم لتخليص الوطن من هذه الحالة الكارثيّة يجب ان يمرّ بإشراك المجتمع المدني المتخصّص في جميع القرارات التي تتعلّق بالإطار الحياتي للناس، وان تكون الشفافيّة هي العنوان الأساسي لهذا العهد الجديد الذي حتّى اليوم ليس إلّا مُتجدّد، وكما يعلن الكثيرون: “صحتنا وصحة أولادنا وبيئتنا ومستقبل البلد كانت وستبقى خطا احمرا ممنوع تجاوزه”.