لا يحتاج الباحث الى الكثير من التدقيق للتأكد من ان المشروع المزمع تنفيذه في قمة القرنة السوداء في جبال المكمل شمال لبنان، لا يعدو كونه فقاعة إعلامية لم تثبت جديتها حتى الآن.
وتهدد قمم جبال لبنان العديد من المشاريع المقرر إنشاؤها. ولم يسمع أي نقد لتلك المشاريع المسماة سياحية، التي ستسبب تلويث خزانات المياه الجوفية بنحو خطير. فهذه المشاريع يمكن أن تحمل مخاطر مؤكدة على الثروات الطبيعية للجبال، وتهدد المياه الجوفية وتسبب تلويث الهواء والتربة.
الأمثلة عديدة على التوسع العمراني العشوائي، فالعديد من المشاريع باتت قرى جديدة في منطقة تعاني من ضغط عمراني كبير ودون وجود البنية التحتية الملائمة، خصوصاً معالجة الصرف الصحي.
ويمعزل عن مدى قدرة شركة Realis Development العقارية على تنفيذ المشروع الذي اعلن عنه مطلع الشهر الجاري مديرها التنفيذي باتريك غانم، فإن العديد من المشاريع المماثلة كان مصيرها الموت السريري، وأبرزها مشروع “زينة لبنان” الذي كان منوي تنفيذه في قمة جبل صنين، مروراً بمشروع “جزيرة الارز” وكان منوي تنفيذه في المياه اللبنانية قبالة شاطئ الدامور عبر ردم البحر.
أسباب عديدة تدعو الى الاستنتاج ان المشروع الذي اطلق عليه تسمية “القمة” غير جدي، إلا اذا صحت المعلومات المتداولة عن ان شركة Realis Development قد اشترت اسهماً في الشركة السياحية لتلفريك سير (ش.م.ل)، التي تمتلك عقارات في منطقة بقاعصفرين القريبة من منطقة القرنة السوداء على ارتفاع 2400 متر، والتي تأسست عام 1974 بهدف انشاء خطوط هوائية ( تلفريك)، ومصاعد تزلج وتعاطي الاعمال السياحية وبناء فنادق واستراحات ومطاعم ومقاهٍ ومساكن، ويرأس مجلس ادارتها حالياً غازي فتال وتضم في عضوية مجلس ادارتها مجموعة من الشركاء اللبنانيين، اضافة الى شريكين سعوديان هما عبدالحميد داغستاني وسامي بليله.
ويُسهم البناء العشوائي في المناطق الريفية والمرتفعات في تدهور المناظر الطبيعية وتشويهها. وأكثر المناطق حساسية هي الجبال التي تغدق على لبنان أهم ثرواته الطبيعية، وهي المياه.
يمكننا أن نتخيل ماذا سيحدث لو قدر للمشاريع المنوي انشاؤها في مناطق تعد خزان لبنان المائي بلا منازع. فالمنتجعات الجبلية تلوث المياه الجوفية بسبب غياب شبكات الصرف الصحي ومحطات المعالجة، فتبنى الجور الصحية بنحو غير احترافي وبغياب أي مراقبة أو فحص من قبل البلديات، وتصرف المياه المبتذلة دون قيد أو شرط وتلوث مصادر المياه من ينابيع وأنهار وبرك. أما على مستوى الأنظمة الإيكولوجية، فإن المنتجعات تفكك الطبيعة الجبلية إلى وحدات أصغر، فتسبب أضراراً للحياة البرية. ويسبب الضجيج والنور المصطنع عند حلول الليل إزعاجاً للحياة البرية، وبذلك تحدث هذه المنتجعات ضرراً لا يعوض ليس على البيئة الطبيعية فحسب، بل على نسيج القرى والمناطق الريفية أيضاً.
مرّ اكثر من اسبوعين على اعلان شركة Realis Development عن مشروعها “الموعود” دون ان تقدم تفاصيل تتعلق بالتراخيص التي تنوي الحصول عليها للبدء به، لكن واضحاً ان الأعلان حول بدء تنفيذ المرحلة الاولى من المشروع في صيف العام 2017 ، يبدو غير قابل للتطبيق.
ويعيد هذا المشروع وغيره من المشاريع المطروحه في مناطق جبلية عالية، طرح السؤال عن الاسباب التي تعرقل اقرار مشروع القانون لحماية قمم الجبال المطروح منذ العام 2008، اضافة الى العديد من الاجراءات التنظيمية التي اقترحتها وزارة البيئة، وابرزها المخطط التوجيهي، لحماية هذه المناطق الحساسة ومنع اي اعمال بناء او تطوير سياحي فيها.
ويفترض على ضوء الاعلان عن المشروع الجديد، ان تسارع وزارة البيئة الى الطلب من مجلس الوزراء مناقشة اقتراحها إعداد مخطط توجيهي لحماية قمم الجبال والمناطق الطبيعية، وتنظيم استثمار الشاطئ والمساحات الخضراء والأراضي الزراعية في لبنان.
المشروع المؤجل منذ عام 2012 يضع الحفاظ على البيئة في سباق مع الجرافات التي قضت على مساحات شاسعة من المناطق البيئية الحساسة، لكنه كغيره من الاقتراحات الحساسة لا يزال عالقاً في أدراج الأمانة العامة لمجلس الوزراء، رغم تعاقب ثلاث حكومات منذ اقتراحه.
يقول وزير البيئة السابق محمد المشنوق، انه سعى منذ العام 2014 الى اقرار هذا المخطط دون ان ينجح في ذلك. ولفت الى ان مجلس الوزراء طلب من لجنة وزارية برئاسة وزير الدفاع السابق سمير مقبل اعادة النظر بالمخطط الذي وضع عام 2012، وطلبت اللجنة من قيادة الجيش اعادة اجراء مسح شامل لقمم الجبال بالتعاون مع المجلس الوطني للبحوث العلمية، ولا تزال الامور متوقفه عند هذا الحد.
ويلفت الوزير المشنوق أنه “آن الأوان للسير بهذا الاقتراح قبل أن يمتد البناء العشوائي على كل الجبال والمناطق الطبيعية والأراضي الزراعية والمساحات الخضراء والمناطق الساحلية فتكون الكارثة على جميع الصعد”. مشيراً الى ان الأولية هي ان يرفع جميع السياسيين ايديهم عن هذا المخطط، وإلا فانه لن يبصر النور.
ويهدف المخطط التوجيهي إلى تنظيم عملية الاستثمار في المناطق الحساسة، قبل أن يُقضى على الإرث الطبيعي للبنان وخزانه المائي، بالإضافة إلى تفاقم أزمة الأمن الغذائي. وينص على تكليف “مجلس الإنماء والإعمار” بالتنسيق مع وزارة البيئة ومجموعة من الشركات المختصة بالهندسة والتنظيم المدني والاستشارات البيئية بإعداد المخطط التوجيهي المذكور. كذلك تقترح وزارة البيئة أن توضع مهلة زمنية لا تتجاوز ستة أشهر قابلة للتمديد شهراً ونصف شهر، لإنجاز المطلوب بالتنسيق مع لجنة تمثل وزارات البيئة والطاقة والمياه والأشغال العامة والنقل والزراعة والداخلية والبلديات و”مجلس الإنماء والإعمار”. ويكلف التفتيش المركزي لجنة للمراقبة إلى حين أن يقر مجلس الوزراء المخطط المعدل.
النقطة الأهم، التي تطرحها وزارة البيئة، تتعلق بإعطائها الحق وفق قرار معلل، في تأجيل البتّ بدراسات تقويم الأثر البيئي والتقويم البيئي الاستراتيجي، العائدة لأي مشروع في هذه المناطق (قمم الجبال، الشواطئ، المناطق الطبيعية، المساحات الخضراء والأراضي الزراعية)، من تاريخ صدور قرار مجلس الوزراء بالموافقة على إجراء هذا المخطط ولحين إقراره نهائياً من قبل مجلس الوزراء. وبطبيعة الحال لم يتم القبول بهذا الاقتراح، بحجة أن من شأن ذلك تجميد العديد من المشاريع التي يمكن أن تكون مفيدة لهذه المناطق، دون أن تؤثر ببيئتها، وأن من شأن تطبيق مرسوم تقويم الأثر البيئي تأمين الضوابط المطلوبة.
ومن شاطئ الدالية الى كفرعبيدا مروراً بالعاقورة واللقلوق وعكار وصولاً الى القرنة السوداء، يبدو واضحاً ان المشاريع الاستثمارية ستقضي على ما تبقى من مناطق يفترض ان تبقى محمية. ومعلوم ان المشاريع السكنية الضخمة لا يمكن ضبطها من خلال مرسوم تقويم الأثر البيئي وحده.
وترفض وزارة الأشغال اقتراح وزارة البيئة جملة وتفصيلاً، بحجة أن إعداد المخططات التوجيهية هو من صلاحيات المديرية العامة للتنظيم المدني، لتعرضها بدورها على المجالس البلدية لإبداء رأيها، وبعدها تعرض على المجلس الأعلى للتنظيم المدني، الذي يمكنه تعديلها، ومن ثم تصدق وتصبح نافذة بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير الأشغال العامة والنقل.
وتعود أهمية جبال لبنان إلى أمرين أساسيين: الأول أنها تشكل خزاناً أساسياً لمياه الينابيع، وتحتضن الرقعة الخضراء، وبالتالي إن مستقبل لبنان الاقتصادي هو في الحفاظ على هذه الجبال، خصوصاً لجهة منع التوسع العمراني في المناطق التي يزيد ارتفاعها على 1500 متر. الأمر الثاني هو أن هذه الجبال تحتضن المجتمعات الريفية المهددة بالنزوح والهجرة إلى المناطق الحضرية، ما يسبب اختلالاً في توازن النظم الإيكولوجية.
تؤدي الجبال أدواراً مهمة في التأثير في المناخ المحلي والمناخ العالمي معاً، حيث تدفع الجبال الهواء إلى الأعلى، ما يزيد كمية الأمطار والثلوج على الجانب المواجه للرياح، ويخلق مناطق أكثر جفافاً، أو ما يسمى “ظلال المطر” في الجانب الآخر. وهكذا فإنه لن يكون ثمة موسم للرياح الموسمية، مثلاً، لولا الجبال التي تعترض كتل الهواء. كذلك إن المياه التي تسقط على شكل أمطار في الجبال أو التي تخزن فيها على شكل ثلج أو جليد في الأنهار الجليدية ثم يطلقها الذوبان إلى الربيع والصيف، تعدّ مورداً حيوياً لما يزيد على نصف سكان العالم.
غير أن مناطق الجبال ذات تضاريس معقدة للغاية، ولذلك يتذبذب المناخ فيها بصورة كبيرة ضمن مسافات قصيرة، ومن المؤسف كذلك أنه لا توجد سجلات طويلة الأجل وموثوق بها للمناخ في الجبال، وخصوصاً في الارتفاعات الشاهقة. وسيؤدي تغير المناخ كذلك إلى تغيرات في الدورة الهيدرولوجية، ما يقلل كميات الثلوج ويزيد كميات الأمطار، بالإضافة إلى الكوارث الطبيعية والأكثر تكراراً مثل الحرائق والفيضانات والجفاف والعواصف. ويمكن أن تحدث هذه التغيرات في ظل زيادات طفيفة نسبياً في درجات الحرارة، ويمكن أن تكون ذات تأثيرات خطيرة على سبل المعيشة القائمة على الزراعة وعلى البنى التحتية والصحة.
وتتأثر الجبال اللبنانية تلقائياً بظواهر تغيّر المناخ على المستوى العالمي، خصوصاً لجهة ارتفاع درجة الحرارة وأثرها في الذوبان السريع للثلوج، الأمر الذي سينعكس على غزارة الينابيع، وبالتالي سيزيد من ندرة المياه خلال فصل الصيف.
واقع الساحل اللبناني، ليس أفضل، فقد سببت المنتجعات السياحية تآكل الشواطئ التي تُعَدّ أملاكاً عامة، وتشارك في تلوث المياه البحرية، عبر صرف المياه المبتذلة ومياه أحواض السباحة مباشرة في البحر، وغالباً بدون أي معالجة، بما يخالف تعهدات لبنان الدولية، ولا سيما معاهدة برشلونة لعام ١٩٧٧ المتعلقة بالمحافظة على البحر الأبيض المتوسط وحمايته من مصادر التلوث. إضافة إلى المراسيم بإشغال الأملاك العامة البحرية التي تعطى دائماً بصورة استثنائية وتسبب ردم عشرات الكيلومترات على طول الساحل اللبناني (ضبية، النورماندي، برج حمود، الشويفات، صيدا، الجية وغيرها)، الأمر الذي يسبب تدمير الموائل البحرية ومصائد الأسماك والجرف القاري. ولا تتوقف الانتهاكات التي يتعرض لها الساحل عند المشاريع الخاصة، بل تصل إلى بناء منشآت عامة لمعالجة المياه الآسنة في مواقع مصنفة مثل الجية، حيث يبني “مجلس الإنماء والإعمار” محطة لتكرير المجارير على عقار مملوك من قبل وزارة الثقافة، ويحوي آثاراً فريدة وجميلة.
وترافق إعداد الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية عام 2004 مع إعداد ثلاثة مشاريع قوانين تتعلق بحماية قمم الجبال وحماية الساحل، ومشروع القانون المتعلق بالحدائق أو المتنزهات الوطنية. ولقد ورد في هذه الخطة بند يتعلق بحماية الجبال والمرتفعات عبر إنشاء حزام خاص بها يحميها من التمدد العمراني.
تصف الخطة الشاملة الخصائص الحسية المؤثرة في استخدام الأراضي والتحديات المستقبلية والتركيبات البديلة لاستخدام الأراضي وتطويرها. كذلك تقدم خطط عمل قطاعية للنقل والسياحة والطاقة والمياه والبيئة والتعليم. وقد نشر التحليل النهائي ووافق مجلس الوزراء على هذه الخطة بعد خمس سنوات، وصدرت بمرسوم حمل الرقم 2366/2009. تلا ذلك تشكيل لجنة تضم الوزارات المعنية، ورغم أن هذه اللجنة عقدت العديد من الاجتماعات، إلا أنها لم تنجح في إنفاذ الخطة الشاملة وتطبيق بنودها.