تدهشنا الطبيعة كل يوم مع ما يكتشفه ويوثقه العلماء في دراسات وأبحاث، فنـتأكد أننا ما نزال – رغم ما نملك من تقنيات حديثة متطورة لم نحلم بها يوما – عاجزين عن معرفة أسرارها الغريبة، قوانينها، نظمها والكثير من فرادة كائناتها.
فمن كان يتصور يوما أن نوعا من النمل يمكنه أن يزرع بذور نبات البن ورعايتها حتى فترة جني المحصول؟ ومن كان يتصور أيضا أن تكافئ النباتات النمل من خلال تطوير تجاويف داخل الأشجار ليضع (النمل) يرقاته فيها ولتكون مقر إقامة الملكة؟ فهذه العلاقة التكافلية لم تكن معروفة من قبل، بين عالم النبات (البن) وعالم الحشرات (النمل)، في “جزر فيجي” في المنطقة الجنوبيّة من المحيط الهادئ.
يتصرف مثل الإنسان
اكتشف باحثان من ألمانيا أن هناك نملا ينثر البذور ويسمد الزرع ليحصد رحيقه وليسكن في هذا الزرع عند اخضراره. وذكرت البروفسور سوزان رينر Susanne Renner، باحثة الأحياء في “جامعة ميونيخ” Munich University جنوب ألمانيا، أن “هذا النمل يرعى بذوره ويفعل ذلك قبل أن تكون هناك ميزة من وراء زراعته، إنه يتصرف مثل الإنسان الذي يغرس الأرز أو يسمد الذرة قبل أن يحصده”.
وتوصلت رينر لهذه النتائج خلال الدراسة التي أجرتها بالتعاون مع زميلها غيوم شوميكي Guillaume Chomicki، الذي حصل معها على درجة الدكتوراه بهذه الرسالة، بحسب وكالة الأنباء الألمانية (د ب ا).
وتبين للباحثَين رينر وشوميكي أن هذا النمل الذي يعيش في “جزر فيجي” جنوب المحيط الهادىء، يزرع بذور ستة أنواع من نباتات القهوة في لحاء الأشجار، ثم تتناوب عاملات النمل ليلا ونهارا على النباتات الصغيرة وتسمدها ببرازها وبولها.
ونشر الباحثان نتائج دراستهما عن النمل من نوع فيليدريس ناغاساو Philidris nagasau في أواخر تشرين تشرين الثاني (نوفمبر) 2016، في مجلة “نيتشر بلانتس” Nature Plants المتخصصة.
غريزة فطرية
وأوضحت رينر أنه “لم يعثر حتى الآن على نوع من النمل متخصص بهذا الشكل في زراعة سكنه المستقبلي ومصدره المستقبلي للسكر كما يفعل المزارع”، بحسب موقع “دويتشه فيله” الألماني، غير أن رينر أكدت في الوقت ذاته أن هذا التصرف ليس له علاقة بالذكاء وأنه غريزة فطرية “فلا بد أن يكون متأصلا في المجموع الوراثي للنمل”.
وأوضح الباحثان أن النمل يعرف بذوره حيث لم تنطل عليه خلال التجارب محاولة إغرائه ببذور أخرى، مثل بذور الأرز وغيرها، وقالت رينر: “نحن نعتقد أن النمل يتعرف على هذه البذور بشكل كيميائي من خلال التعرف على رائحة موجودة على سطحها”. وأضافت: “عندما تبدأ هذه النباتات في الإثمار، فإن النمل يكون شغوفا كثيرا بجمع البذور الشابة للنبات الذي سيزرعها مستقبلا”. وحسب رينر أيضا، فإن البذور لا تذهب للحاء الأشجار من تلقاء نفسها، بل إن “النمل يزرع مساكنه المستقبلية في أشجار بعينها، ولا بد أن يكون اللحاء مناسبا للزراعة”.
علاقات تعاون
وأشارت رينر إلى أن هذا النبات يرى ضوء الشمس بمساعدة النمل الذي يزرعه في أعالي أشجار عملاقة بعينها في الغابة”، وتقوم نباتات القهوة بمكافأة النمل من خلال تطوير تجاويف داخل هذه الأشجار ليضع النمل يرقاته فيها ولتكون مقر إقامة الملكة”.
وأوضحت سوزانه فويتسيك Susanne Foitzik، باحثة علم الأحياء في جامعة ماينس University Mainz، أن النمل معروف بإقامة علاقات تعاون مع أنواع أخرى، حيث تعيش بعض أنواع النمل على سبيل المثال في نباتات بعينها تحميها من الالتهام ومن منافسيها، وأن النمل القاطع للأوراق في أميركا الجنوبية يزرع الفطر في أعشاشه، وأن ديدان اليسروع تفرز عصارة لإطعام النمل الذي يحميها مقابل هذا الغذاء.
وأضافت فويتسيك: “هناك أيضا نمل في أستراليا يحمل الديدان مساء إلى الأشجار لتلتهم أوراقها، ثم يعود بها صباحا إلى الأسفل”. وأردفت: “في ألمانيا هناك نمل (مربي للماشية) حيث يرعى هذا النمل حشرة المن ويدافع عنها ضد الخنافس ويحلب هذا المن”. أما الجديد في ما يخص نمل جزر فيجي فهو أن “النمل يزرع النباتات بشكل متعمد، وهو أمر لم يعرف بهذا الشكل حتى الآن”.