بعد قرابة عام ونصف عام على ارتكاب واحدة من ابشع المجازر بحق الثروة الحرجية في قرية صغار في قضاء البترون، وقريتي معاد وفغال في قضاء جبيل، اصدرت القاضية المنفردة الجزائية في البترون كارلا رحال، حكماً قضى ببراءة المتهمين “لعدم كفاية الدليل”، علماً ان محاضر الضبط التي نظمها حراس الاحراج في الشمال وجبل لبنان، افادت بقطع ما يزيد عن 400 طن من الاشجار الحرجية غالبيتها من السنديان، كانت تشكل واحدة من اكبر الغابات المعمرة على اراضي دير مار شليطا القطارة التابع للرهبانية اللبنانية المارونية، اضافة الى اراضٍ خاصة ومشاعات. ويفترض بناء على هذا المحضر ان يتم تغريم المتهمين بما يزيد عن ٨٠٠ مليون ليرة لبنانية، على اقل تقدير.
وليس معلوماً بعد، اذا كانت النيابة العامة في الشمال سوف تستأنف قرار القاضي المنفرد الجزائي في البترون، لكن حيثيات هذا القرار، وما تضمنه من تجهيل وتجاهل للمعطيات والوقائع وافادات الشهود، ومحاضر حراس الاحراج ومهندسة في وزارة الزراعة، والتقارير الصحفية التي وثقت المجزرة، يضع علامات استفهام حول دوافع صدور هذا القرار القضائي بتبرئة المتهمي،ن وبينهم القيم على دير مار شليطا القطارة الاب سيمون عبود.
هي ليست المرة الاولى التي تصدر القاضية رحال قرارات بتبرئة متهمين بارتكاب جرائم بيئية، فلقد سبق واصدرت في العام 2014 قراراً بتبرئة مجموعة من الصيادين غير الشرعيين، نشروا عبر موقع فيسبوك صوراً لمجزرة مرتكبة بحق أكثر من ٤٠ طائراً من الطيور المحلقة المهاجرة من نوع اللقلق والكركي، المحرم صيدها دولياً، وذلك في احدى المناطق في قضاء الكورة. وبعد قرابة 4 سنوات على ادعاء النيابة العامة الاستئنافية في الشمال على المتهمين بارتكاب هذه المجزرة، اصدرت القاضية رحال قراراً قضى ببراءة المتهمين، ورأت ان ما فعلوه “اعمال صبيانية” (راجع http://www.al-akhbar.com/node/220026). لذلك، فإن “الريبة” من قرارات القاضية رحال في ما يتعلق بقضايا البيئة “مشروعة”.
في حيثيات ووقائع قرار رحال حول المجزرة البيئية المرتكبة بحق غابة دير القطارة، يتبين ان النيابة العامة الاستئنافية في الشمال ادعت بتاريخ ٢٠ حزيران (يونيو) ٢٠١٦ على المدعى عليهم شربل سركيس وغسان عبد الله، وهما من متعهدي اعمال القطع لاغراض بيع حطب الوقود والتفحيم، ولكلاهما سجل حافل في اعمال القطع في مختلف غابات محافظتي جبل لبنان والشمال. كما ادعت على الاب سيمون عبود بصفته القيم على املاك دير مار شليطا القطارة، كونه قد تقدم مع المدعى عليهما سركيس وعبدالله من وزارة الزراعة بطلبات للحصول على اجازتي استثمار اشجار حرجية بداعي التشحيل ولأغراض التفحيم، كما جير لهما اجازة استثمار كان قد تقدم بها مع الملتزم سمير الياس، لتصبح بذلك مجموعة الاجازات الممنوحة من قبل وزارة الزراعة، ثلاث اجازات تسمح بتشحيل (تقليم) كمية من الحطب لاغراض التفحيم، قدرت بحوالي ١٠٠ طن، على العقارات ٤٩٩ – ٥٠٤- ٥١٠ – و ٥١٧.
وتقول القاضية رحال في قرارها انه “لم يتبين وجود اي تعدٍ من اي من المدعى عليهم او قطع اشجار حرجية او احتطاب بما يتجاوز الكمية المرخص بها، كما لم يثبت قيام المدعى عليهم بأي تعدٍ من هذا القبيل، وان هذه الوقائع تأيدت بالتحقيقات الاولية، وبالادعاء العام، وبالاستجواب وبصور اجازات الاستثمار المبرزة وبمجمل الاوراق”. وخلصت رحال الى اعلان “براءة المدعى عليهم لعدم كفاية الدليل”.
في المقابل يتبين من الوثائق التي حصل موقع greenarea.info على نسخ منها، ان النيابة العامة الاستئنافية في الشمال قد ادعت على المتهمين بالاستناد الى محضر ضبط (وثيقة إحالة) موقع من رئيس دائرة التنمية الريفية في وزارة الزراعة في الشمال المهندسة رانيا وردان، وستة حراس احراج محلفين، هم: محمد شوك، محمد حامو، بدوي سعد، يونس طراد، شوقي خالد، عبد القادر يحي وناطور الاحراج أحمد المراد.
ويتبين من خلاصة هذا المحضر انه بعد اجراء كشوفات ميدانية في احراج بلدة صغار، اثر ورود شكاوى من قبل العديد من الاهالي وابناء المنطقة، ان المتعهدين سركيس وعبدالله ومن عاونهما من عمال وحطابيين، لم يلتزموا بشروط الترخيص حيث تجاوزوا الكمية المرخصة وقاموا بقطع ما نسبته حوالي ٦٥ بالمئة من الاحراج التابعة لدير مار شليطا القطارة، وهو حرج كثيف نسبة اغداره (الغطاء الحرجي) بين ٦٥ و ٨٥ بالمئة، ويمتد حرج الدير من سفح الوادي وصولاً الى مجرى المياه من الناحية الشمالية، كما يمتد الحرج الى الناحية الجنوبية والغربية وهي المنطقة المقابلة لبلدتي فغال ومعاد في قضاء جبيل، حيث تم قطع اشجار متعددة الانواع بينها سنديان وقطلب وصولاً الى مجرى المياه الفاصل بين قضاءي البترون وجبيل.
ويضيف تقرير حراس الاحراج: “بعد معاينتنا الحرج المقطوع، قدرنا كمية الاحطاب التي تجاوزت الترخيص بحوالي ٤٠٠ طنا من حطب الوقود الاخضر، ووجدنا ان الاحطاب قد بدأ جمعها على البيادر لتهيئتها للتفحيم، ووجدنا العديد من المشاحر قد اشعلت، ونتيجة ما حصل قدرنا المساحة المقطوعة بحوالي ٢٠٠ الف متر مربع من اراضي الدير، ولما كان هذا العمل مخالفاً لاحكام مواد قانون الغابات وقانون البيئة وقانون العقوبات، تم تسطير محضر ضبط بعد استدعاء مختار البلدة وعدد من الشهود والملتزمين اعمال القطع وقيم الدير والاستماع الى افادتهم. كما تركت المواد الحرجية المستخرجة في عهدة المخالفين لصعوبة حجزها ولعدم وجود مستلم في تلك المحلة”.
كيف امكن للقاضية رحال تجاهل وثيقة الاحالة المذكورة؟ ولماذا لم يتم استدعاء حراس الاحراج الذين تولوا تنظيم هذا المحضر للاستماع الى افادتهم؟ اسئلة عديدة لم يتم الاجابة عليها.
التدقيق في افادات الشهود والمدعى عليهم، تكشف المزيد من المعطيات البديهية التي كان يفترض ان تستند اليها القاضية رحال، افاد القيم على دير مار شليطا القطارة الاب سيمون عبود انه قام بتضمين الحرج لاعمال التشحيل والتفحيم بقيمة ثمانين مليون ليرة لبنانية، واستحصل على رخص من وزارة الزارعة لاستخراج ٩٠ طنا من الحطب لاغراض التفحيم. وبعملية حسابية بسيطة يتبين ان قيمة هذه الاحطاب اذا ما بيعت للوقود لن تتجاوز ٢٧ مليون ليرة، على افتراض ان الطن سيباع بثلاثمئة الف ليرة لبنانية. اما اذا بيعت بعد تفحيمها، فإن وزنها سيصبح نحو ٢٢ طناً، وان قيمتها لن تتجاوز ٣٠ مليون ليرة على ابعد تقدير. فلماذا قبل المتعهدان سركيس وعبدالله بدفع ٨٠ مليون ليرة مقابل استخراج هذه الكمية؟ وهل كانا يخططان لخسارة ٥٠ مليون ليرة لبنانية مقابل القيام بهذه المهمة؟ ام ان الحقيقة انهما كانا ينويان قطع كميات اكبر بكثير من تلك المرخصة من قبل وزارة الزراعة، والتي قدرها حراس الاحراج بحوالي ٤٠٠ طن. كما يتبين من الصور التي تم ضمها الى محضر حراس الاحراج ان اعمال القطع التي نفذت قد اتت على الاشجار من كعوبها، ولم تقتصر على اعمال تفريد وتشحيل كما تنص رخصة وزارة الزارعة. لكن القاضية رحال اعتبرت انه ليس هناك اي دليل ضد المتهمين!
وتعليقاً على الحكم اكد وزير الزراعة غازي زعيتر انه “لم يطلع على الحكم القضائي، وهو سوف يبني موقفه بعد الاطلاع على القرار”، لافتاً الى ان الوزارة ومن خلال مسؤوليتها حماية الغابات والاحراج من التعديات سوف تتابع هذه القضية.
بدوره قال وزير الزراعة السابق اكرم شهيب “نحن لا نتدخل في قرارات القضاء، ولكننا في الوقت نفسه سنقوم بواجبنا البيئي للحفاظ على الغابات من خلال المحامين العامين البيئيين، ونأمل التوسع في التحقيق مع المتهمين في مرحلة الاستئناف، وهذا ما سوف احرص على حدوثه، من خلال مسؤوليتي كرئيس للجنة البيئة البرلمانية”.
وقال رئيس مصلحة الاحراج والثروات الطبيعية في وزارة الزراعة شادي مهنا في اتصال مع greenarea.info ان “المصلحة سوف توصي باستئناف القرار القضائي”، ولفت مهنا الى ان “هناك اتجاها عند العديد من القضاة للتساهل في الأحكام المتعلقة بقطع الغابات، لكن القرار الاخير يمثل اقصى درجات التساهل، خصوصاً ان الكمية المقتطعة كبيرة جداً”.