بعد استراحة بيئيّة قصيرة، وبسحر ساحر، أعيد فتح مصنع سحب زيت الجفت وتكريره في بلدة بزيزا في قضاء الكورة. هي صدمة نزلت كالصاعقة وسط عاصفة الغبار الجهنّمي الذي يبثه معمل الموت على رؤوس أبناء بزيزا وبلدات الجوار، ناقلاً البلدة الصغيرة الوادعة الغارقة في التاريخ والآثار والمصنّفة على الخريطة السياحية الوطنية، إلى بؤرة للسواد، وإلى كارثة صحيّة تهدّد أبناءها وأبناء القرى المجاورة، ولا سيما منهم الأطفال والعجزة.
بدأت القضيّة العام 2008 مع محاولة إنشاء مصنع غير مطابق للشروط الصحيّة والبيئيّة بحكم تكوينه وطبيعة إنتاجه. مع رفض المجلس البلدي بالإجماع آنذاك منحه أي شكل من أشكال الترخيص في قرارات متتالية، استطاع صاحب المعمل استمالة السياسيين لإمرار مشروعه وحصل على رخصة من أحد وزراء الصناعة السابقين. أما الفضيحة الكبرى فتجسّدت في استحصاله على رخصة لاستثمار مجاري نهر العصفور، في بلدة تتدخّل مديرية الآثار في منح رخصة بناء سكني، فكيف في إنشاء مصنع لا يستوفي أدنى الشروط البديهية، ويضرب بعرض الحائط شتى المعايير المطلوبة.
وكان أن رفعت وزارة الصناعة في العام 2009 دعوى ضد المجلس البلدي في بزيزا في محاولة لفرض الترخيص بإنشاء المصنع في خطوة إدارية وقانونية غير مسبوقة. وعلى الرغم من تقديم الاثباتات الخطيّة الدامغة التي مثّلت يومها فضيحة رسمية مدوّية نتيجة إخفاء حقائق ووثائق، خسرت بزيزا الدعوى نتيجة الضغوط السياسية، ليتمكّن صاحب المعمل لاحقاً في العام 2013 من أخذ الموافقة بالترخيص على رغم اجماع المجلس البلدي على الرفض(؟!).
تبدّلت المعطيات في العام 2015، نتيجة انضمام قرى المجدل ودار بعشتار وأميون واتحاد البلديات في الكورة في التحرك لسحب رخصة معمل الموت. نواب المنطقة أقاموا آنذاك المؤتمرات الصحافية مندّدين. رؤساء التيارات والأحزاب السياسية على تنوّعها دعموا. وزير الصناعة الدكتور حسين الحاج حسن هاله الوضع. فانبعاث دخان كثيف وسام يحمل روائح كريهة هو فوق طاقة الاحتمال البشرية. الأضرار الصحيّة تصيب الجهاز التنفسي، وخصوصاً بين الأطفال والعجزة، ويمكن أن تؤدّي إلى تشوّهات خلقية وشل الأطراف واضطراب الأعصاب والتسبب في العقم، وإلى رفع معدل نسب الاصابة بالأمراض السرطانية. وهناك تلويث مستفحل في الهواء جراء حرق “الزيبار” الناتج من عصر الزيتون ومن ثم حرقه. إضافة إلى تلويث مجرى نهر العصفور جراء هذه المخلّفات، والمياه الجوفية، مع نقل المكوّنات السامة التي تستعمل في العملية الانتاجية إلى التربة فتحرقها فتصيب الزراعات وتهلكها. بعد معاينة على الأرض قام بها محافظ الشمال بنفسه كادت تتسبب باختناقه، أقفل القاضي رمزي نهرا في خطوة جريئة المصنع في آذار 2015 وختمه بالشمع الأحمر لعدم توافر الشروط الصحيّة ولتسبّبه بأمراض مزمنة للمواطنين.
وزارة الصناعة التي تعود إليها في النتيجة مرجعية القرار بالترخيص، اتخذت قرارات إدارية وقانونية لافتة، رافضة في الأساس نوعاً كهذا من الصناعة في لبنان بعدما حرّمها العالم منذ أواخر القرن الماضي. فزيت الجفت قد تسبب بآلاف الوفيات في عدد من البلدان وهو مسبب أساسي للسرطان ولتشوهات البنية الوراثية DNA. على هذا الأساس توقف المعمل عن العمل منذ شهر حزيران 2015 بقرار من وزير الصناعة.
يذكر في هذا الإطار ان وزارة الزراعة منعت استيراد زيت الجفت من أجل الاستهلاك البشري، وقد حاول بعض المتضررين من التجار توجيه رسالة إلى وزارة الزراعة من أجل تخفيف القيود على استيراد زيت الجفت، فكان جواب وزارة الزراعة منذ فترة ليست بالبعيدة حاسماً، “إن زيت الجفت مادة مسببة للسرطان ونحن لا ننتج زيت الجفت في لبنان، وإن من الأفضل لكم التعامل بزيت بلادكم الطبيعي بدل التعاطي بالزيت السام القاتل”.
ما الذي تغير؟
في كانون الثاني 2017 وجّه صاحب المعمل كتاباً إلى المجلس البلدي المنتخب حديثاً في بزيزا يقرّ فيه بأنه “اشترى كمية من جفت الزيتون” وبأن “عملية استخراج الزيت منه تتوجب تنشيف الجفت من الرطوبة بواسطة افران ونشافات ينتج منها الغبار والدخان والروائح”… التي “شكلت مصدر ازعاج للجوار”.
في الكتاب يطلب صاحب المعمل “إمرار” هذا الموسم والتشغيل مع التعهد بـ”تفكيك النشّاف والفرن وكذلك المدخنة في مهلة أقصاها نهاية شهر أيار من هذا العام”.
المجلس البلدي الحالي وافق، مستنداً إلى التعهّد الرسميّ المذكور والموثّق لدى كاتب عدل، وبحجة “مفاجأته بصدور قرار جديد من وزير الصناعة يصرّح به لصاحب المعمل بمباشرة العمل مجدداً” وفي سبيل “الوصول إلى حلول جذرية ونهائية”.
فهل بات استخراج الزيت من جفت الزيتون مسموحاً به في بزيزا؟ وماذا عن الجرائم المرتكبة على المستويين البيئي الطبيعي والصحي البشري؟ وهل تتعلق المهلة الإدارية لفترة أربعة أشهر المعطاة من وزير الصناعة بعصر الزيتون أم باستخراج الزيت من الجفت؟
هي أسئلة برسم كل المعنيين من مجلس بلدي واتحاد بلديات وقائمقام ومحافظ ونواب ووزارة صناعة ووزارات الزراعة والصحة والبيئة والسياحة وسط ارتياب كبير إزاء ما يجري.
ان معمل عصر الزيتون هذا، بات مصنعاً لاستخراج الزيت من الجفت، وهو يستخدم مادة محرّمة عالمياً، “إكزان”، وهي تحرق الأرض وتقتل مزروعاتها وتسمم مياهها، وكانت منظمة الصحة العالمية قد منعت استعمالها منعاً باتاً، بسبب نتائجها الكارثية على المياه الجوفية وعلى المزروعات والبيئة البشرية والطبيعية.
الرائحة القاتلة المنبعثة منه ليست فقط رائحة الهيكسان والجفت المحروق. انها انبعاثات الكوستيك صودا (القيطرون) المستخدم في مصنع التكرير الملاصق لمعمل الجفت.
وسبق لوزراء الزراعة، الصناعة، والصحة العامة، أن وجهوا كتباً إلى “مؤسسة ليبنور” يطالبون بضرورة تصنيف زيت الجفت على أنه زيت غير صالح للاستهلاك البشري وذلك من أجل تعديل المواصفات المستوردة التي يحتمي بها أفراد مافيا تزوير وغش زيت الزيتون. فكيف في غفلة من الزمن ينشأ مصنع لاستخراج زيت الجفت وإلى جانبه مصنع للتكرير حتى يصبح مقبول الطعم والرائحة واللون؟!
فما الذي تغير؟!
لقد قاد الطمع البعض إلى المغامرة بإنشاء هذا المصنع في قلب غابة زيتون الكورة البكر. غابة تعيش فيها بسلام مئات آلاف الأشجار المنتجة لأشرف غذاء وأقدس دواء منذ آلاف السنين. لقد أنشئ هذا المصنع ليتحول إلى كتلة من الجحيم والدمار وسط هذه الجنة الخضراء، وقد تآمر هذا المصنع مع المتآمرين على غابة زيتون الكورة عبر استيراده آلاف أطنان زيت الجفت وتكريرها وبيعها على أنها من إنتاج لبنان، على رغم معرفته أن زيت الجفت قد تسبب بآلاف الوفيات في عدد من البلدان وأنه مسبب أساسي للسرطان ولتشوهات البنية الوراثية DNA.
فبماذا يمكن أن يجيب المجلس البلدي واتحاد البلديات والقائمقام والمحافظ ووزارة الصناعة ووزارات الزراعة والصحة والبيئة والسياحة؟!