«رب نافعة ضارة». قد يكون هذا العنوان معاكساً للمثل الشائع الذي يقول: «رب ضارة نافعة»، لكنه يتماشى أكثر مع أمور البيئة ونشاطاتها وناشطيها. إذ قد يكون هدف أي عمل في ظاهره الوصول إلى منفعة معينة… ولكن قد تكون النتيجة أن يتفاعل بنحو مؤذٍ للبيئة. كيف يحصل ذلك؟
في ثمانينيات القرن الماضي اكتشفت إحدى حكومات لبنان “البيئة”، وأسست لها وزارة دولة، تحولت في ما بعد إلى وزارة أصيلة. تطورت هذه الوزارة مع الزمن، ومع تفاقم وضع البيئة عالمياً ومحلياً. لسان حال الذي حصل فعلياً “أننا أنشأنا لكم وزارة للبيئة ولم نلتزم كحكومة، لا قولاً ولا فعلاً أبسط المبادئ البيئية”.
بل أفلتت كل الوزارات الأخرى العنان على البيئة في كل جوانبها. تضافرت جهود كل الوزارات المعنية، مثل الأشغال والسياحة والداخلية، على سلب الأملاك العامة البحرية والنهرية وتدميرها عبر ما سمّوه منشآت سياحية هدفها تشجيع السياحة… وما حصل بالفعل كان تنفيراً لأي سائح أجنبي بإمكانه التمتع بالشواطئ في أيّ مكان في العالم دون أن يتكلف قرشاً واحداً مقابل وصوله إلى مياه البحر، بينما قد تكون كلفة الوصول إلى شاطئ البحر هنا للأسرة تتجاوز الحد الأدنى للأجور، علماً أنه حق مدني وإنساني ودستوري وقانوني أن تصل إلى البحر ولا يملك أحد أي حق بمنعك من الوصول إليه. يتحدث بعض الناشطين البيئيين، مشكورين، عن شرور هذا الواقع، ويغفلون عن تنبيه كل اللبنانيين إلى أن بلدهم قد يكون الوحيد في العالم الذي يسمح فيه بانتهاك الأملاك العامة البحرية والنهرية وسلبها على هذا النحو وحرمان كل الناس إياها. يمنّننا سالبو الملك العام بكونهم أساس السياحة في لبنان، ثم يتباكون لإهمال الدولة وعدم دعمها لهم. وتكتظ طرقاتنا بالسيارات ونختنق بالتلوث الناتج منها، وخاصة تزايده بسبب زحمات السير في الوقت الذي تجثم فيه الكثير من المؤسسات على الأملاك العامة المخصصة لسكك الحديد على طول الساحل اللبناني التي كان من الممكن أن تُسهم في تخفيف مشاكل السير وتحسين وضع المواصلات العامة التي تُعَدّ أيضاً، ويا للسخرية، من أهم الأمور التي تنفّر السياح (الأوروبيين على الأخص) من القدوم إلى لبنان. وزارة للبيئة لا تكفي في ظل غياب سياسة بيئية تتبناها وتنتهجها الدولة ونرى في أزمة النفايات مثلاً فاقعاً على ذلك.
محميّات لمن؟
منذ تسعينيات القرن الماضي، أنشأت الدولة عدة محميات طبيعية. ابتدأت بخمس، وما زالت تتزايد، وهذا فأل خير. غير أنّ لسان حال هذا الإنجاز هو “أننا أنشأنا لكم (على مضض) مناطق تحمون فيها بعض ثروات لبنان الطبيعية، ولكن اتركوا لنا الباقي لنعيث فيه فساداً وتخريباً وتدميراً لغطائه الأخضر، ولننقب جباله وتلاله كمقالع وكسارات ونبيع منتجاتها لمشاريع عمرانية وإسكانية لا تترك بدورها عرقاً ولا غصناً ينغّص عليها هناءها بمساحات الإسمنت (وقد نسمي بعض هذه المشاريع “واحات”). لا تلتزم هذه، ولا تلك، أن تعيد تأهيل ما خربته أو ترك مساحات خضراء بين الأبنية (الحدائق المصطنعة لا تُعَدّ مساحات خضراء ذات أسس بيئية طبيعية). عدَّت الدولة المحميات من إرث لبنان القومي الوطني الطبيعي، وأنشأتها بتمويل خارجي ودولي استمر لعدة سنوات. ولكن عندما نضب التمويل الخارجي، طُلب من إدارات المحميات أن تعمل على تمويل نفسها بنفسها (“تدبر حالها”). في المبدأ، كيف تكون المحمية إرثاً وثروة وطنية فريدة، ويكون عبء التمويل محلياً. عملياً، كان الناتج من هذه السياسة أنّ المحميات وجدت ما يروق الجميع تسميتُه السياحة البيئية، مصدراً للتمويل وتغطية تكاليف إدارة المحميات وتشغيلها، وتحوّل كل العاملين في هذه المحميات إلى حراس ونواطير ومرشدين ومرشدات، وبالمقابل لا تجد بينهم فرداً واحداً يملك اختصاصاً أو مهارة ذات طابع بيئي، في الوقت الذي يجب أن تشمل نشاطات هذه المحميات مراقبة وضع الكائنات الحية ومتابعته وتقويمه ضمن مساحتها. وهكذا تضخمت “السياحة البيئية” لتصبح خارج القدرة الاستيعابية للمحمية، وتقلص الاهتمام والمتابعة والمراقبة للمقومات الحية الطبيعية باستثناء بعض المشاريع التي قد تستجلب تمويلاً.
وبحكم معرفتي وإسهامي ببعض الدراسات العلمية في بعض هذه المحميات، قد لا تجد أي معلومة دقيقة ناتجة من منهجية علمية تصف تطور وضع أي من الكائنات الحية في أي محمية منذ إنشائها، خاصة أننا في طور تغير مناخي متصاعد.ليست المشكلة في المناخ
في ما يخص التغيرات المناخية، قد يكون من الإيجابي الإضاءة على هذه الناحية بغرض استشراف تأثيراتها في مواردنا الطبيعية وتنوعنا الأحيائي وبناء استراتيجيات للتخفيف من تأثيرات للتغير المناخي. لكنّ هذه الإضاءة الساطعة بذاتها، قد تكون بالغة الضرر. التدهور البيئي في لبنان أسرع من أيّ تأثير ناتج من التغير المناخي، وهذا التدهور حاصل بلا تغير مناخي، الذي بدوره سيزيد من سرعة تفاقمه. المشاكل البيئية التي نرزح تحتها لا علاقة لها أصلاً بالتغير المناخي. إن تلوث أنهارنا وبحرنا وهواءنا، وتدهور التنوع الأحيائي والمجازر التي يرتكبها “الصيادون”، وانقراض الكثير من حيواناتنا ونباتاتنا، واضمحلال مساحاتنا الخضراء وتشظيها إلى بقع صغيرة، وغياب السياسات البيئية، أو عدم تطبيق ما وجد منها في مشاريعنا على مستوى الدولة أو على مستوى البلديات، وأزمة النفايات الصلبة والسائلة، وتدهور أوضاع مواردنا المائية، ثم حاجتنا إلى سدود تُنشأ (لتجميع مياه المجارير فعلياً وليس المياه العذبة) وتقضي على نظم بيئية نهرية كان يتميز بها لبنان فتزيد معضلاتنا البيئية بدل حلها… وتطول اللائحة، هل هذه مشاكل ناتجة من التغير المناخي. إذا كان بعض الناشطين البيئيين يريد أن يثقف الناس في هذا البلد بهدف تخفيف نشاطاتهم المؤدية إلى انبعاث غازات، لأن ذلك يُسهم في التغير المناخي العالمي. هل هؤلاء جديون في توجههم وتوجيههم؟ هل ينتج لبنان كله من الغازات ذات مفعول الدفيئة بقدر أي مدينة في الصين أو في الولايات المتحدة أو في أوروبا؟ التركيز على النشاطات البيئية المتعلقة بتخفيف ارتفاع حرارة الأرض (دراسات حديثة في جامعة نورثمبرلاند تشير إلى الدخول في عصر جليدي مصغر في عام 2030) لا يجدي نفعاً، بل يزيد الضرر عندنا، لأن المواطن والمجتمع والمسؤولين سينامون على انطباع أن مشاكلنا البيئية سببها التغير المناخي (وهذا غير صحيح)، وأن ليس بوسعهم فعل شيء لقلة تأثير هذا البلد الصغير في تغيير مناخ العالم (وهذا صحيح)، وبالنتيجة سيتقاعسون عن الإسهام أو المبادرة في أيّ عمل باتجاه إنقاذ بيئتهم من مآسيها، وسيستمرون في ممارساتهم المعتادة المدمرة للبيئة. يجب أن يعلم الجميع هنا أن إسهامهم في أي سياسة أو توجه بيئي صحي، ليس بغرض الحدّ من التغير المناخي، بل الحد من الحالة البيئية التعيسة التي وصل إليها البلد والتخفيف من التلوث الذي يخنقنا منذ زمن، وهو على طريق التفاقم المستمر والمتسارع (نعتز بأرقامنا القياسية من ناحية أكبر صحن حمص أو تبولة، ولا نلتفت إلى أرقام عاصمتنا القياسية كأكثر مدن العالم تلوثاً، ونستمر بتقديس من أوصلتنا سياساتهم إلى هذا الحال)، ولا يبدو ضوء في نهاية النفق.
* أستاذ علم البيئة في قسم الأحياء في الجامعة الأميركية في بيروت