هل تصل الانتفاضة الرابعة ضد شركات الاسمنت في شكا الى خواتيمها السعيدة؟ الاحتجاج ضد هذه الشركات جاء هذه المرة من اهالي قضاء الكورة، الذين نظموا مؤتمراً بيئياً بمبادرة من منفذية الكورة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، تحت عنوان “واقع الكورة البيئي: لتحديد المخاطر والمطالب ورفع الضرر عن الكورة واهلها”.
ثلاث انتفاضات حصلت ضد شركات الاسمنت في شمال لبنان. الأولى كانت ابان العهد الاول بعد الاستقلال، والثانية ايام الفترة الشهابية، والثالثة مطلع التسعينيات من القرن الماضي بعد انتهاء الحرب الأهلية. لكن هذه الانتفاضات التي اسهمت في تحسين الواقع المأساوي للمعامل التي عملت لعقود دون فلاتر، لم تنه المشكلة المستفحلة للتلوث الناتج عن هذه الصناعات المصنفة ثقيلة، والتي لا تزال متفلته من الرقابة الجدية والصحيحة للوزارات المعنية، لا سيما وزارة البيئة.
طغى الطابع الحزبي على المؤتمر الذي عقد اول من أمس. قاعة “جمعية النهضة العمرانية” في اميون، غصت بالحاضرين من مختلف المشارب والقرى والبلدات في قضاء الكورة. السقف العالي للمطالب، واللهجة التصعيدية في الخطابات والمداخلات التي القيت، والرصانة العلمية في الدراسات التي عرضت، كلها تؤشر الى ان هذا المؤتمر، ليس مجردة “همروجة وبتقطع”، بل مقدمة لحملة واسعة، تؤسس لتغير واسع في البنية الصناعية في المنطقة، وتسعى الى وضع حد لانتهاكاتها التي تطاول الصحة والبيئة على حد سواء.
الدراسة الابرز في المؤتمر عرضها الدكتور باسم القبرصي، وهي عبارة عن نتائج مسح اجرته منفذية الكورة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، بهدف مقارنة نسب الاصابة بالسرطان بسبب عامل البعد او القرب من شركات الاسمنت المحيطة بالكورة، واستفتاء الرأي العام حول الحلول المطروحة بين اقفال الشركات او فرض الرقابة عليها. ولقد وزعت الاستمارات في سبع قرى كورانية ما عادل ١٠٦ عائلات. واظهر المسح ان هناك عشرات الاصابات بأمراض الحساسية. لكن الاهم انه تبين، وفق عينة المسح، ان اصابات السرطان بلغت وفق ما اعلنت عنه العائلات ١٥٢ اصابة، وان ٧٣ عائلة من اصل ١٠٦ لديها اصابات سرطانية، وان ٦٩ عائلة لديها حالات وفاة بسبب امراض السرطان.
كما اظهرت العينة ان النسبة الاعلى لانوع السرطان المنتشرة هي سرطان الرئة، يليها سرطان غشاء الرئة (ميسوثيليوم)، ثم الجهاز الهضمي، والصدر، والبروستات، والرأس، والغدد، والدم والحنجرة.
ويعلق الدكتور القبرصي على هذه النتائج بالقول ان وجود ١٤ حالة مصابة بسرطان ميسوثيليوم يدعو فعلياً الى القلق، لان هذا المرض قليل الانتشار، ويرتبط بشكل مباشر بالأسبستوس. ومعلوم ان معمل الاترننيت في شكا الذي بقي يعمل لعقود قبل ان يغلق في اواخر الثمانينيات من القرن الماضي، قد تسبب بانتشار هذا المرض بين العمال. ويحدث التعرض لمادة “الأسبستوس” من خلال استنشاق ألياف موجودة في الهواء في بيئة العمل، أو الهواء المحيط في منطقة مجاورة لمصادر التلوث مثل المصانع التي تتعامل بالأسبست، أو الهواء الداخلي في المساكن والمباني التي تحتوي على مواد أسبستية قابلة للتفتيت. ولا تزال مئات الاطنان من انابيب الاترنيت مرمية دون معالجة في منطقة شكا، رغم مطالبات الاهالي بنقلها من هناك. (راجع https://greenarea.com.lb/ar/198164).
ومعلوم ان وزارة الصحة اللبنانية تصدر سنوياً السجل الوطني للسرطان، لكنها تكتفي بتعداد اعداد المرضى وانواع الاصابات وتوزعها على اساس العمر والجنس، لكن الحكومات اللبنانية المتعاقبة تحجب انتشار السرطان على اساس المناطق او الاقضية، رغم اهمية هذا المعطى الاحصائي لتبيان ما اذا كانت هناك مناطق لبنانية موبوءة بسبب عوامل خاصة بها، كما هو الحال في قضاءي الكورة والبترون، حيث تعاني القرى المحيطة بمعامل الاسمنت من تفشي الامراض والاصابة بالعديد من الامراض، وغالباً ما يربط الاهالي بين التلوث الصناعي والاصابة بامراض السرطان، ولا تقدم الحكومة اللبنانية اي معلومات او معطيات من شانها تأكيد هذه الهواجس او نفيها. (راجع https://greenarea.com.lb/ar/113470).
والى جانب الموضوع الصحي تحدث عدد من المحاضرين عن الجوانب القانونية والتاريخية لمصادر التلوث والانتهاكات البيئية في الكورة، من الصرف الصحي الى النفايات المنزلية الى الصيد الجائر، وصولاً الى تلوث الهواء جراء معامل الاسمنت.
الدكتور جوزف حنا، اشار الى أن اسباب انعقاد المؤتمر “كي لا تبقى الكورة مكسر عصا للرأسمال الجشع والشركات، كي لا تبقى بؤرة ملوثة بيئيا وصحيا، كي نضع حدا لكل التجاوزات، والاعتداءات على ترابنا وارضنا وهوائنا وصحتنا”.
ورأى منفذ عام الكورة في الحزب السوري القومي الاجتماعي جورج البرجي ان “الشركات تتحايل على القانون بخصوص المقالع وغيرها، وتشتري صغار النفوس واصحاب الضمائر النائمة، ولهؤلاء نقول: انتم مشاركون في تدمير الكورة وقتل اهلها، فتخيلوا لو ان احد ابنائكم هو المصاب بالسرطان، فماذا تعني لكم كل اموال وكنوز العالم؟”.
وتحدثت عميدة البيئة ليلى حسان باسم الحزب عن شجرة الزيتون التي تتعرض لابشع المكائد بكساد مواسم الزيت وبيع الاراضي الزراعية. ورأت ان “مقالع مصانع الاسمنت اقتلعت آلاف اشجار الزيتون واعتدت على واجهة الكورة البحرية مهددة بتغيير مناخي خطير”.
في المحور الاول للمؤتمر “واقع الكورة البيئي” تحدث رئيس اتحاد بلديات الكورة كريم بو كريم عن ايجابيات بيئية جديدة تمحورت حول تركيب محطات لقياس التلوث، منها في فيع، ما يتيح امكانية الاعتماد على وثائق علمية لتحديد مصادر التلوث. واعتبر بو كريم ان الارادة السياسية هي المتحكمة في قضية التلوث الصناعي الذي يصيب الكورة جراء معامل الاسمنت.
وتحدث رئيس “هيئة حماية البيئة والتراث” رفعت سابا عن واقع البيئة في الساحل التاريخي الطبيعي الممتد من وادي نهر الجوز الى وادي نهر هاب، وما لحقها من تدهور بيئي. مشيرا الى ما لحق بالشاطئ من ردم وانشاء مرافئ سياحية وصناعية، وشفط للرمول، وتوقف العمل بمرفأ الصيادين في انفه.
وركز على معامل الترابة والاسمنت في شكا منذ نشأتها والخطوات التي قامت بها الهيئة على الصعد كافة للحد من تلوثها. مشيرا الى انه “رغم كل شيء ورغم عدم البت بموضوع التلوث الحالي ومعالجته، تم اخيرا الترخيص بزيادة الانتاج لشركة الترابة الوطنية بنسبة الضعفين”. واستعرض مساوىء المنطقة الصناعية في شكا واخطارها البيئة.
واكد رئيس لجنة البيئة في التجمع الوطني الديموقراطي في لبنان جورج قسطنطين عيناتي ان “شركات شكا تعمل اليوم على ازالة معالم الكورة البيئية والتاريخية ومصدات الرياح الجنوبية الغربية”. وتساءل: “الى متى تبقى هذه المصانع القاتلة بين بيوتنا رغم ان المعايير الدولية تمنع استخدام المصانع للفحم البترولي البتروكوك، ما لم تكن تبعد 120 كلم على الاقل عن اماكن السكن؟”.
وطالب عيناتي بالسماح باستيراد الاسمنت، خصوصاً ان فارق السعر بين السعر في لبنان والسعر العالمي كبير جداً. وطالب بتخفيض سعر طن الاسمنت في لبنان الى ٥٠ دولاراً كحد اعلى، لافتاً الى ان ذلك سيحدث تلقائياً في ما لو سمح بالاستيراد، حيث انخفض سهر الاسمنت البيض من ٢٣٠ دولاراً الى ١٢٣ دولاراً في يوم واحد في لبنان، بعد السماح باستيراده من الخارج.
وشدد رئيس “هيئة حماية البيئة” في شكا بيار ابي شاهين على ان “مسؤولية انتشال المجتمع في شكا والجوار من هذه البؤرة الملوثة من جميع الشركات العاملة، دون حسيب او رقيب، تقع علينا اولا كمجتمع صامت مستسلم وعلى البلديات ثانيا”. واستعرض انواع التدهور البيئي في المنطقة من مصانع الاسمنت ومعمل السكر والمسالخ والمجارير ومعمل الجفت وشركة الاترنيت.
وفي المحور الثاني “الواقع الصحي: انعكاس الواقع البيئي على صحة المواطن الكوراني” تحدث جون عبدالله عن تجربته بالعمل البيئي منذ التسعينيات. محددا المحطات المضيئة التي تمكن فيها بالتكاتف مع ناشطين بيئيين واتحاد البلديات وبلديات من توقيف العمل بمقالع الشركات في الكورة. مشددا على دور السلطات المحلية والاهالي في حماية البيئة. وطالب عبدالله بالتركيز على المخاطر الصحية التي يسببها التلوث على الجهاز التنفسي، والتي تؤدي الى احالات قصور كبيرة، لافتاً الى ان هناك العشرات من الذين يعانون من قصور في الرئتين نتيجة التراكم المزمن للملوثات جراء تلوث الهواء.
وفي المحور الثالث “الواقع القانوني للشركات والمقالع”، تحدث ايلي ضاهر عن اللجنة التطوعية التي تشكلت من نخبة من المحامين الكورانيين، وهي تعمل لتحضير ملفات، تحدد فيها المخالفات البيئية، لتقديمها الى القضاء. واكد انه عدا عن اهتمام اللجنة بالمراجعات القضائية، فهي تعمل لايجاد مشروع قانون يعدل العقوبات بحق المخالفين البيئيين من غرامات مالية الى عقوبات جزائية.
وصدر عن المؤتمر مقررات وتوصيات اهمها “اعتبار مصانع اسمنت شكا ومقالعها وطريقة النقل والتشغيل سببا اكبر واكيدا للتلوث. اعلان الكورة منطقة منكوبة بالتلوث البيئي والوفيات بالسرطان، الغاء التراخيص بمضاعفة الانتاج في شركة الترابة الوطنية، وقف جرف التلال، الزام الشركات باحترام الشروط البيئية، حفظ النفايات السامة في حظائر آمنة، تقديم دراسة تقييم بيئي للمنطقة الصناعية في انفه وشكا والهري وكفريا والقرى المحيطة بشكا، اصلاح ما تم تخريبه في سهل الكورة ومقالع الصخور، عدم شفط رمال الشاطئ الكوراني، تنظيف مرفأ الصيادين في انفه، اقفال معمل زيت الجفت في بزيزا، الزام الشركات بالتعويض على اسر ضحايا مجزرة السرطان في الكورة.