مئات أسراب اللقلق عبرت لبنان أمس من الجنوب إلى الشمال، تزف إلينا بشرى قدوم الربيع، ورددنا عليها بإطلاق النار ومطاردتها بالسيارات، وما وثقه موقعنا greenarea.info بالصور والفيديو، كان أقرب ما يكون إلى “جبهات قتال” متنقلة، خلفت عشرات المجازر في مختلف المناطق اللبنانية.
ويبدو في ما شهدناه أمس الخميس 9 شباط (فبراير) أن مسلسل قتل الطيور المهاجرة عاد إلى الواجهة، أو بمعنى أدق إبادتها بعيدا من أية معايير إنسانية وأخلاقية، ولا نستغرب أن يتصدر لبنان قائمة الدول التي ينظر إليها كواحدة من أكثر دول العالم في عدم احترامها للتنوع البيولوجي، لا سيما وأن مواقع التواصل الاجتماعي ساهمت بإيصال ما نرتكبه من مجازر إلى “العالمية”، حصوصا وأن معظم الجرائم البيئية يعرضها “الصيادون” أنفسهم على صفحاتهم الخاصة، ويضعون صورا لعشرات ومئات الطيور المقتولة بكثير من الزهو والتباهي!
مهددة بالإنقراض
ما إن أطلت طلائع اللقالق في هجرتها الموسمية حتى أمطرها الناس بنيران البنادق الحربية، إن كانت على ارتفاع لا تطاولها بنادق الصيد العادية، في مشهد نضعه برسم الدولة، حكومة ووزارات ومؤسسات معنية، لا سيما وأن هيبة الدولة على المحك، فالأمر لا يقتصر على الصيد فحسب، وإنما يمثل حالة من الفلتان الأمني.
المشكلة أن الدولة لم تستغل موقع لبنان باعتباره ثاني أهم مسار للطيور المهاجرة حول العالم، لجهة تعميم السياحة البيئية، لكن للاسف، أبقت حضورها مغيبا، لتواجه هذه الطيور عمليات قتل منظمة خلال مرورها، ويعتبر مسار حفرة الانهدام _ البحر الأحمر ثاني أهم مسارات الطيران للطيور المهاجرة في العالم، بما فيها اللقالق، ويستخدمه 37 نوعاً من الطيور الحوامة المختلفة، بما في ذلك خمسة أنواع مهددة بالانقراض عالمياً.
أبي سعيد: حرام صيدها
واستنكر رئيس “مركز التعرف على الحياة البرية والمحافظة عليها” Animal Encounter الأستاذ المحاضر في الجامعة اللبنانية – كلية العلوم البروفسور منير أبو سعيد ما تعرضت له أسراب اللقلق أمس، وقال لـ greenara.me “هناك موسمان للهجرة في الربيع والخريف، وخلالهما نستقبل طيورا جلّها من الطيور الجارحة أي أنها لا تؤكل وتقتل خلال مرورها فوق لبنان، وهذه الطيور حرام صيدها نظرا لمنافعها الكثيرة بحيث نخسر حلقة مهمة من حلقات التوازن البيئي، كونها خلال مرورها تقتات على الجرذان والفئران والافاعي والحشرات ومنها دودة الصندل”.
أما أبو سعيد فأشار إلى “اننا نتوقع زيادة كبيرة في أعداد الطيور المصابة طوال الشهر الجاري”، وقال: “الطيور المصابة اصابات خفيفة نداويها ونعيد اطلاقها، أما الطيور المصابة بكسور في أجنحتها فتبقى في المركز إلى أن تنفق لانها غير قابلة للشفاء ومعاودة الطيران، ونؤمن لها الطعام والرعاية الدائمة”، وشدد على “ضرورة تنظيم الصيد والاستناد لقوانين واضحة تحاسب وتقاضي المعتدين”.
وعن كلفة علاج الطيور المصابة، قال: “نعالجها على نفقتنا كمركز ولا نريد توظيف هذه المشكلة في طلب الاغاثة من أحد، وعندما لا يعود في مقدورنا استقبال الطيور المصابة نعلن ذلك، لاننا موجودون منذ عشرين سنة في هذا المركز وسنستمر”، وأشار إلى أن “هناك صعوبات تحول دون إمكانية تكاثر الطيور الجارحة في المركز خلافا لبعض أنواع الحيوانات البرية، ولا نطالب بأكثر من تنظيم الصيد البري”.
سفراء دول أوروبية
أشار أبي سعيد إلى أن “المزارعين في أوروبا الشرقية يبنون الأعشاش لطيور البجع لتكون على مقربة من أراضيهم الزراعية، وتؤدي دورها في القضاء على الحشرات التي تهدد محاصيلهم الزراعية”، ولفت إلى “اننا منذ الصيف الماضي ولا نزال نستقبل أنواعا عدة من الطيور المصابة كالصقور على أنواعها والبجع وأبو جراب وغيرها”، وأسف لأن “النسبة الأكبر من هذه الطيور تكون أجنحتها مصابة بعدة كسور ولا يمكن معالجتها لتعاود الطيران من جديد ولذلك نبقيها في المركز”.
وبرر أبي سعيد مخاوف سفراء دول أوروبية حيال قتل طيور البجع بشكل خاص، وأشار إلى أن “طائر البجع يتزاوج من أنثى واحدة ان نفقت لا يتزوج غيرها والأنثى كذلك، بمعنى أن قتل البجع يعني قتل طائرين”.
مفارقة غريبة
وتبقى المشكلة متمثلة بوجود 500 ألف صياد في لبنان، مع غياب التشدد في قرارات لم تحترم يوما.
وثمة مفارقة غريبة ومقاربة فاضحة في بلد لا يقيم أبناؤه اعتبارا للدولة بكافة مؤسساتها، وفي المقابل لا يدنو القيمون عليه من أرض الواقع ومحاكاة اللحظة أبعد من مكاتبهم، فيما الفساد مستمر، ولم تجدِ مناشدات سفراء بعض الدول الأجنبية ولقاءاتهم مع المسؤولين اللبنانيين لوقف قتل الطيور المهاجرة التي تسدي خدمة لمجتمعات هذه الدول في القضاء على الآفات والحشرات، وتسعى إلى حمايتها لما لها من دور في التوازن البيئي.
سعد: صديقة للبيئة
الخبير في مجال الطيور الدكتور روجيه سعد قال لـ greenarea.info أن “عملية الابادة ارتكبها صيادون وهواة بداعي التسلية، دون مراعاة لأي اعتبارات بيئية أو خوف من ملاحقة قانونية، بحيث انهم ما تمادوا ليس بالقتل فحسب، بل لم يتوانوا عن التباهي بعرض صورهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي”. وأضاف سعد: “في الوقت الذي يقطع فيه الاوروبيين وبعض الشعوب الغربية مسافات طويلة، ويتحملون أعباء وتكاليف السفر لزيارة البلدان التي تمر بها الطيور من أجل مشاهدتها، فهناك من يعمدون إلى قتلها دون أدنى إحساس بالمسؤولية، علما ان هذه الطيور محمية بقانون محلي وعالمي، ومدرجة على القائمة الحمراء من قبل “الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة” International Union for Conservation of Nature الـ IUCN والاتفاقية بشأن حفظ المهاجرة الأفريقية الأوروبية الآسيوية AEWA.
وأكد سعد أن “مرور هذه الطيور في مناطقنا هو نعمة من الله خصوصا في هذه الفترة مع إنتشار أزمة النفايات في لبنان”، لافتا إلى أن “الطيور التي تباد كاللقلق وغيرها تعتبر صديقة للبيئة، تخلص المناطق التي تمر بها من القوارض كالجرذان والفئران والزواحف كالأفاعي وأيضا الحشرات، بالاضافة الى أنها تساعد في نقل الحبوب في الطبيعة وتساهم في عملية التشجير”.
وأكد على “ضرورة تدخل الوزارات المعنية واتخاذ الاجراءات اللازمة بحق المعتدين المعروفين بالاسماء والصور في هذه المنطقة، تحسبا لما ستؤول اليه الامور في حال استمرار هذه التعديات وفقدان هذه الثروة التي أنعم الله علينا بها”.