تتدفّق ملايين الأمتار المكعبة من المياه عبر شبكات الصرف الصحي، وتذهب سدى، بل تلوّث البيئة وتهدد الصحة العامة. في المقابل، تعزّ مياه الشرب والريّ على ملايين البشر.

وتشير أرقام صدرت أخيراً عن الأمم المتحدة و «منظمة الصحة العالمية» إلى أن ما يزيد على ثمانين في المئة من مياه الصرف عالميّاً، لا تتم معالجتها أو إعادة استخدامها. وتلفت إلى وجود 636 مليون إنسان يعانون نقصاً في المياه الصالحة فعليّاً للشرب.

يضاف إلى ذلك، شيوع الافتقار لخدمات الصرف الصحي في مجموعة كبيرة من الدول. إذ لا يحصل قرابة 2.4 بليون إنسان على خدمات الصرف الصحي، كما يضطر 1.8 بليون إنسان إلى الحصول على مياه الشرب من مصادر ملوثّة. في ظل تلك الصورة القاتمة، يلح السؤال عن إمكان إعادة استخدام مياه الصرف الصحي، خصوصاً في ظل توافر تقنيّات تحولّها مياهاً صالحة لاستخدامات بشريّة متنوّعة، بما فيها الشرب والري.

وفي العام 2017، اختارت «لجنة الأمم المتحدة للمياه» لفت أنظار العالم إلى موضوع مياه الصرف، فجعلته موضوعاً لاحتفالها بـ «اليوم العالمي للمياه» الذي يصادف (اليوم) 22 آذار (مارس). وكرّس ذلك اليوم مناسبة سنويّة منذ العام 1993، بعد أن توافقت الدول على ذلك الخيار في سياق «قمة الأرض» التي انعقدت في مدينة ريو دي جينيرو البرازيليّة 1992.

وفي المناسبة عينها، دعا السيد غاي رايدر، رئيس لجنة الأمم المتحدة المعنية بالموارد المائيّة إلى اعتبار مياه الصرف أحد الموارد المهمة لأن المياه العذبة في الكوكب محدودة فيما يتزايد الطلب عليها. ولفت رايدر الذي يشغل أيضاً منصب المدير العام لـ «منظمة العمل الدوليّة» إلى قدرة كل الأفراد على المساهمة في تحقيق هدف أساسي مزدوج يتمثّل في خفض كمية مياه الصرف غير المعالجة من جهة، وزيادة معدل استخدام المياه الصالحة للشرب بحلول 2030 من جهة أخرى. وأضاف: «لنقلّل جميعاً من الفضلات، ولنزيد معالجة مياه الصرف الصحي».

 

ولكن، لماذا الآن؟

لماذا يصعد الاهتمام الآن بمسألة إعادة استخدام مياه الصرف الصحي. ربما يأتي الجواب عبر تفحّص التحدّيات التي تواجه المياه العذبة عالميّاً. إذ تتصاعد الضغوط المتنوّعة عليها، وهي تشمل زيادة السكان، وتصاعد نمط العيش الحضري، وارتفاع متطلبات التنمية الاجتماعية والاقتصاديّة وتحديات المناخ. ولأن الأرقام خير شاهد، ربما تكفي الإشارة إلى تجاوز عدد سكان الكرة الأرضيّة السبعة بلايين نسمة، مع توقّع وصول العدد إلى 9 بلايين بحلول 2050. وفي تلك السنة عينها، تتوقّع تقارير علميّة من الأمم المتحدة أن يكون قرابة سبعين في المائة من سكان الأرض قاطنين في مدن حضريّة، بالمقارنة بـ50 في المئة حاضراً.

وللأسف، لا تملك غالبية المدن في الدول النامية بنية تحتية جيدة في خدمات مياه الشرب والصرف الصحي. إذ تورد «منظمة الصحة العالميّة» حدوث قرابة 842 ألف وفاة سنويّاً بسبب نقص خدمات المياه والصرف الصحي. ويعرّض عدم الحصول على مياه الشرب النقيّة ملايين الناس لأخطار الإصابة بالكوليرا والتيفوئيد وما يشبههما من الأوبئة. وبحلول العام 2030، يتوقّع أن يزداد الطلب على المياه بنسبة 50 في المئة. وستتركز الزيادة في المدن التي تحتاج بداهة إلى تطوير نظم الصرف الصحي وإدارتها، إضافة إلى النهوض بمعالجة المياه المبتذلة وإعادة استخدامها كي تساهم في تلبية الحاجات الناجمة عن زيادة السكان، إضافة إلى ضرورات التنمية.

وفي ذلك الإطار، يكون واضحاً أنّ حماية نظم الصرف من التلوث أمر أساسي. ولا تملك بعض النشاطات البشريّة في المناطق الحضرية، خصوصاً تلك التي تنهض بها مؤسّسات متوسطة وصغيرة، إمكانات لمعالجة مخلفاتها المائيّة. ومثلاً، تنجم عن مشروعات التعدين، وورش إصلاح السيارات، وورش الحدادة وغيرها، مجموعة من المواد الكيماويّة السامة التي تصبّ في شبكات الصرف الصحي. وبالنظر إلى طبيعة تلك المواد، تغدو كلفة معالجة مياه الصرف لإعادة استخدامها، مرتفعة تماماً. وفي المقابل، لا تستطيع نظم المعالجة التقليديّة التخلص من تلك الأنواع من الملوّثات لأن أمرها يتطلّب تقنيّات متقدّمة ومكلفة. وفي كثير من الدول النامية، تصب المخلّفات المائية الآتية من مناطق فقيرة ومنخفضة مباشرة في قنوات مائيّة سطحيّة من دون أدنى معالجة. ويؤدي ذلك أيضاً إلى تضرّر خزّانات المياه الجوفيّة.

وكذلك تستهلك الصناعة كميات كبيرة من المياه العذبة، تصل إلى 22 في المئة مما يتوافر منها على الكوكب الأزرق. إذ تستهلك الصناعة في أوروبا وأميركا الشمالية قرابة نصف المياه العذبة، فيما تصل النسبة ذاتها إلى 12.4 في الدول النامية.

 

العرب أمام التحدّي: إما التحرّك الآن أو العطش مستقبلاً!

 

في 2017، قرّرت الأمم المتحدة أن تكون مدينة «دوربان» في جنوب أفريقيا، مركزها للاحتفاء بـ «اليوم العالمي للمياه». ومن «دوربان» أطلقت الأمم المتحدة تقريرها عن تنمية المياه في العالم 2017.

ويؤكّد ضرورة اعتبار الكميّات الهائلة من مياه الصرف الصحي الناجمة عن النشاطات الإنسانيّة المختلفة، مورداً ثميناً وليس مشكلة تنتظر حلاً. ويدعو إلى صحوة عالمية ونقلة نوعية في التعامل مع المياه وتنميتها عالميّاً، مع التشديد على شعار «مياه الصرف مورد غير مستغل» الذي اعتبره محورياً في الاحتفال دوليّاً بيوم المياه.

وتشارك في التقرير «لجنة الأمم المتحدة المعنية بالموارد المائية» و «برنامج اليونسكو العالمي لتقييم الموارد المائية». ويؤكد التقرير أنّ معالجة مياه الصرف الصحي تؤدي إلى مساهمتها في تلبية الطلب المتزايد على المياه العذبة، ما يجعل المعالجة أداة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، خصوصاً ما تعلّق منها بالصحة الجيّدة، وتحسين نوعية الحياة، وتوفير المياه النظيفة، وتحسين خدمات الصرف الصحي.

ويتطلب الأمر تقليل التلوث، وتقليل المخلفات، وزيادة حجم المياه المعاد تدويره. ويساهم تحقيق تلك الأهداف في تحقيق أهداف التنمية المستدامة الأخرى المرتبطة بالمدن والحياة البحرية، والحياة البرية، والطاقة النظيفة، وحماية التربة، وسواها من أهداف التنمية المستدامة.

 

العالم العربي … خطورة متصاعدة

إذا كان سؤال مياه الصرف الصحي مطروحاً الآن عالميّاً بقوّة، فإن الوضع العربي في المياه هو قيد خطورة متفاقمة. إذ تعاني المنطقة العربيّة نقصاً مزمناً في المياه، بل إنّها من أكثر مناطق العالم جفافاً.

وفي المقابل، يستمر نمط العيش الحضري في التوسّع عربيّاً بالترافق مع زيادة متصاعدة في زيادة السكان.

ويلفت أن معظم مصادر المياه العربيّة تنبع من خارج أراضيها، ما يجعلها في حاجة لإعادة استخدام كل قطرة ماء. ولا تشير التقارير العلميّة إلى أي تحسّن في الوضع المائي العربي. إذ انخفضت حصة الفرد من المياه العذبة بمقدار الثلثين عما كانته خلال الأربعين عاما الماضية، ومن المتوقّع تواصل الانخفاض ليصل إلى قرابة خمسين في المئة بحلول العام 2050.

في المنحى عينه، رصد تقرير «الاستراتيجية العربية للأمن المائي 2010 -2030»، تحديات عدّة في تأمين حاجات العرب من الماء.

وأشار إلى حاجة المنطقة إلى تأمين 550 بليون متر مكعب من المياه عام 2025، بأثر انخفاض نصيب الفرد العربي من الموارد المائية في معظم الدول العربية إلى قرابة 500 متر مكعب سنويّاً أو أقل. وحاضراً، يصل ذلك الرقم إلى قرابة 150 متراً مكعباً سنويّاً للاستخدامات كافة.

وباختصار، لن تستطيع الموارد المائية المتاحة عربيّاً تلبية حاجات الغذاء، بل تلبّيها بقرابة 24 في المائة مع حلول العام 2025، إذا استمر الوضع على ما هو عليه الآن، بل حتى من دون احتساب التأثيرات السلبيّة المحتملة لظاهرة تغير المناخ!

ويذكر تقرير الاستراتيجية أيضاً أن متوسط نسبة التسرب في الري السطحي السائد في معظم البلاد العربية، يصل إلى قرابة 62 في المئة من مجمل الموارد المائية المستخدمة في الري. وعلى رغم الجهود التي تبذلها الدول العربية، يبقى قرابة 83 مليون نسمة من دون مياه شرب نقية، فيما يحتاج قرابة 96 مليون نسمة إلى خدمات الصرف الصحي الملائمة.

وكذلك يورد تقرير الإستراتيجية عدداً من الأهداف الواجب تحقيقها للوصول إلى الأمن المائي، من بينها توطين التقنيات الحديثة في تحلية المياه ومعالجتها، ما يعطي القدرة على التوسع في إعادة استخدام المياه. ويندرج في الإطار عينه ضرورة تعزيز دور البحث العلمي عن إدارة الموارد المائية وتنميتها، بل رفع شعار «إما التحرّك الآن، وإما مستقبل يهيمن عليه العطش»!

 

الجوع بعد آخر في أزمة متشابكة

 

في ظل الترابط البديهي بين المياه والغذاء، يذكّر «اليوم العالمي للمياه» بضرورة تحقيق الأمن الغذائي الذي بات تحدّياً صعباً. وترافق الاحتفال بيوم المياه في 2017 مع صدور مجموعة من التقارير الدوليّة عن «منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة» («فاو» FAO) عن علاقة استخدام الأراضي ومصادر المياه عالميّاً في تعزيز أوضاع الغذاء والزراعة. وتؤكّد التقارير على نقاط منها أن التكامل بين طرق استخدام الأراضي من جهة، ومصادر المياه من جهة أخرى هو أمر أساسي في تحسين الأمن الغذائي عالميّاً، خصوصاً في ظل تصاعد الضغوط الديموغرافيّة وتأثيرات التغيّر في المناخ. ويظهر ذلك الأمر بصورة جليّة في قارتي أفريقيا وآسيا.

يضاف إلى ذلك أنّ الزيادة السكانية المستمرة (خصوصاً في الدول النامية) ستتطلب إنتاج ملايين أطنان إضافيّة من الأغذية سنويّاً. ويزيد في تعقيد الأمور معاناة قرابة بليون إنسان من انعدام الأمن الغذائي، خصوصاً في آسيا وأفريقيا.

 

الزراعة مهدّدة أيضاً

وكذلك تبيّن التقارير أن تضاعف الإنتاج الزراعي في الدول النامية لا يحل مشكلة الغذاء فيها، لأن ذلك في حال تحقّقه يبقي شخصاً من كل عشرين ضمن دائرة الجوع، ما يساوي بقاء 370 مليوناً في قبضة نقص الغذاء. ولإيجاد حلّ فعلي لذلك الوضع، تفترض زيادة الإنتاج الزراعي بوتيرة أسرع من الزيادة السكانيّة، ويعني ذلك أنه بحلول 2050 هناك حاجة لزيادة الإنتاج الغذائي عالمياً، بما يتراوح بين 70 و100 في المئة، كي تلاقي حاجات الزيادة في السكان.

تظهر الأرقام السابقة أيضاً أهمية الاستغلال الأمثل للأراضي ومصادر المياه، بل ضرورة عدم إهدار نقطة ماء! هناك حاجة واضحة للحفاظ على مصادر المياه، وتحسين السياسات والممارسات والتقنيّات بهدف حماية مصادر المياه من التلوث، وتخفيف الضغط عن المياه الجوفيّة التي تلوث كثير من خزاناتها نتيجة النشاطات البشرية، وعدم وجود نظم جيدة للصرف الصحي.

وكذلك تحذّر تقارير الـ «فاو» من غياب الجهود الكافية في التوصّل إلى إدارة جيدة لمستقبل استخدامات الأراضي والمياه. ولفتت أيضاً إلى آثار التغيّرات المناخيّة، وخطورة عدم وجود قواعد بيانات عنها، مشيرة إلى ضرورة النهوض بمشاريع واسعة في إعادة استخدام مياه الصرف الصحي ومعالجتها كجزء أساسي في حل مشكلة ندرة المياه عالميّاً. واستطراداً، تتطلب تلك الأمور التنبّه إلى تشابك «ثلاثية الماء والطاقة والغذاء»، ما يفرض التحول صوب الطاقة المتجددة والمستدامة.

مي الشافعي – الحياة

* صحافيّة مصريّة

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This