حبيب معلوف – الاخبار
مع الزيادة الدائمة في تسبب حضارتنا بانقراض العديد من الأنواع يومياً، ومع تدميرنا للكثير من الموارد واستنزافها وتغير المناخ العالمي وتلوث كل شيء… وتهديد شروط الحياة على هذا الكوكب الصغير الهش… بات علينا أن نتراجع عن النموذج الحضاري الغالب والمنتصر وإعادة النظر في قيمه ومعتقداته وممارساته.
في طليعة القيم المنتصرة التي يجب إعادة النظر فيها ولجمها وإعادة تقييدها، مفهوم الحرية، على أنواعها. من حرية الإنتاج والتسويق إلى حرية الاستهلاك إلى حرية الإنجاب إلى حرية التملك إلى حرية التنقل والتلويث…إلخ.
لا حاجة إلى التفتيش عن براهين كثيرة للدلالة على ما فعلته حرية الإنتاج في الموارد. فهذا الفيضان من جميع أنواع السلع في محلات البيع وفي غير مواسمها وتلك المستوردة من جميع أنحاء العالم والتي لم يحسب في إنتاجها ونقلها وتسويقها وتلفها كل الحسابات اللازمة… لم تعد من دون ثمن، وعلينا إعادة تسعير وتقييم كل شيء، مما يعني عملياً تقييد حرية الإنتاج والاستهلاك إلى حدود بعيدة. كما علينا أن نعيد إحياء نمط الحياة المقتصدة (بمعنى التوفير الذي عرفه أجدادنا وليس بالمعاني الاقتصادية الحديثة) بدل نمط الاستهلاك غير المحدود.
ثم إذا كانت زيادة الإنتاج والاستهلاك والهدر في الموارد والغذاء من السمات الكارثية الرئيسية للبلدان الغنية والمصنفة متقدمة، فإن زيادة الإنجاب من آفات البلدان النامية الأساسية، التي تضرب معها كل شيء، من زيادة الفقر إلى الزيادة في تدمير الموارد الطبيعية واستنزافها أيضاً.
كما أن سيطرة مفهوم الحرية الفردية في المجتمعات الغنية لم يكن من دون انعكاسات خطيرة على الموارد. إذ لم تقتصر الحرية الفردية على حرية المعتقد، بل ذهبت نحو تقديس الفرد، وتحليل كل شيء من أجل ما سمي «رفاهيته». ومع ارتباط الفردية بمفهوم الرفاه، من دون ضوابط وحدود، ظن كل فرد أن باستطاعته، بكونه معيار كل شيء ومحور كل شيء، أن يتملك بقدر ما يستطيع وأن يكون له مساكنه الخاصة وسياراته الخاصة ومن ثم طائراته الخاصة ومساحاته الخاصة… دون حدود. ولا يعرف العالم إلى أين يتجه إذاً طبقنا فقط مبدأ لكل فرد سيارة (مع العلم أن بعض الأفراد يمتلكون أكثر من سيارة)، ولا شيء يمنع أن يصبح هذا المبدأ طموح كل فرد، فتصبح مساحة الطرقات في العالم أكبر من المساحات الخضراء ونصبح بحاجة إلى أربعة كواكب كالأرض لكي نستطيع أن نتنفس!
لا مانع من المحافظة على حرية التفكير التي لها جذورها الطبيعية في تراثنا العربي، لا سيما في حب الشعر والسرد والقص… قبل أي دين. إنها حرية غير عملية، لا بل قد تكون ضد عملية. وهذا ما باتت تتطلبه حضارتنا لإنقاذها من حالة التدهور المستمر. فالتفكير العملي وتقديس العملي والبراغماتي، بالإضافة إلى فكرتي التقدم والتنمية كان لهما انعكاسات بالغة السلبية على العالم أجمع وعلى منطقتنا بعد أن تبنتها، دون مراجعة ولا دراية. هذا التبني التاريخي الذي لم يحصل إلا لحظة الانبهار بالتقدم الغربي، يوم وصلت حملة نابليون بونابرت إلى مصر، كما يكتب الجبرتي، حين دخلت دول المنطقة في حالة من العمى بالإضافة إلى الشعور بالدونية. فهل حان الوقت للخروج من حالة الانبهار والنظر بإمعان لمشاكل عصرنا، وفي طليعتها، مشاكل الحريات العملية المرتبطة بتقدم الآلة الغربية والتصنيع وزيادة الإنتاج وضرورة التسويق وتحويل بلداننا إلى أسواق ومستهلكين، والعودة إلى الفكرة الأساسية والتراثية السابقة للأديان عندنا حول حرية الفكر والشعر، الصديقة للبيئة ولإنسانية الانسان، المتصالحة مع الطبيعة وليس تلك التي تتحداها؟