يبدو أن أمراض الصنوبر المثمر آخذة في الازدياد والانتشار لتطاول أجمل وأكبر أحراج لبنان، ولكن هذه المرة قد نكون أمام كارثة بيئية وزراعية وسياحية، بعد أن عاود مرض يباس الأشجار ظهوره ليضرب بقوة أكثر من ذي قبل، وهو أحد أخطر أمراض الصنوبر، فأينما توجهنا نجد أشجارا باسقة تحولت إلى كتل يابسة لا أثر فيها لحياة، ما يستدعي إعلان خطة طوارىء لإنقاذ ما بقي من هذه الثروة بعد أن تطاول عليها التمدد العمراني وأتت عليها الحرائق، ولم تنجُ من أعمال القطع الجائر، خصوصا وأن شجرة الصنوبر تعتبر بمثابة العمود الفقري لاقتصاد المتن الأعلى وبعض مناطق عاليه وجزين والشوف، ما يعني تراجع الانتاج وتقلص المساحات الخضراء، فضلا عن أن كل شجرة صنوبر ترفدنا كل يوم بأكثر من مئتي ليتر من الاوكسيجين، ما يؤشر إلى فقدان لبنان لاهم مقوماته الطبيعية والمناخية.
فبعد أن استقدم الأمير فخر الدين الثاني أغراسا من توسكانا، أصبحت أشجار الصنوبر تنافس الأشجار المستوطنة التي تميز لبنان من أرز وملول وبلوط ولزاب وغيرها لجهة توزعها الجغرافي، خصوصا وأنها شجرة مفيدة بكل ما تنتجه، وكان أجدادنا يقولون، لا نرمي شيئا من هذه الشجرة، بل نستعمل كل ما تنتجه من أوراق (زِهْر)، وحطب، وكروز منتجة
للحب الأسود والأبيض، حتى بات إنتاجها يعرف بـ “ذهب لبنان الأبيض” الذي يعد من أجود الأنواع، ما دفع بعض التجار الأتراك في السنوات الأخيرة، لاستيراد هذا المحصول كـ “حبوب سوداء” من لبنان وبيعه بعد تكسيره في أوروبا بأسعار عالية بالعملات الصعبة.
جولة ميدانية
إلا أن صرخة أطلقها المزارعون وأصحاب أراضٍ عامرة بهذه الشجرة مؤخرا عبر greenarea.info، عن ظاهرة يباس تصيب هذه الأشجار المعمرة، وحتى الفتية منها، وقد لاحظ المواطنون في تلك المناطق أن هذه الظاهرة أخذت تتنشر من شجرة إلى أخرى وتتواجد في كافة المناطق، ما قد يهدد هذه الثروة التي يعتمد عليها الكثير من الناس في معيشتهم، لا سيما وأن هذه الشجرة تتطلب فترة زمنية ليست بقصيرة لتنتج الثمار، ما يهدد مئات العائلات التي تعتمد على إنتاج الصنوبر في معيشتها كمصدر رئيس.
وفي جولة ميدانية في أحراج الصنوبر في العبادية، الهلالية وشويت ورأس المتن ودير الحرف في منطقة المتن الأعلى تبين أن هذه الظاهرة منتشرة، وأن نسبة ليست قليلة من هذه الأشجار أصابها اليباس، وبادر المواطنون إلى قطعها خوفا من انتشارها إلى الأشجار المجاورة، والتقينا عددا من هؤلاء المزارعين.
وفي هذا المجال، قال خالد نجد لـ greenarea.info، وهو صاحب مزرعة أبقار في بلدة العبادية، ولديه حرج صنوبر حول المزرعة بمساحة 300 ألف متر مربع: “لاحظنا هذه الظاهرة، فالشجرة تبدأ بالإصفرار، ثم تتيبس تماما، والمخيف في الموضوع، أن هذا الأمر لا يستمر إلا لفترة قصيرة لا تتجاوز الأسبوعين، وما صدمنا أن شجرة معمرة، يقدر عمرها بمئات السنوات، وقاومت كل الظروف الطبيعية أن تصاب بهذا المرض القاتل”.
منع الصيد
وأضاف: “أصاب المرض ما لا يقل عن 80 شجرة في هذا المحيط لوحده”، وأشار في الفيديو المرافق إلى شجرة عمرها يتجاوز 300 سنة، ومصابة بالإصفرار، وقال أنه خلال أسبوع تموت الشجرة، وعند سؤاله عن السبب أكد نجد “أن المسؤولين يعتقدون أن الحل برش الأشجار بالمبيدات، ولا أعتقد أن هذا هو الحل، فالحل الوحيد هو منع الصيد، فهناك طيور تتغذى على الحشرات التي تصيب هذه الأشجار وتمنع تكاثرها”.
وأكد أن “الحل يبدأ بمنع الصيد الجائر، فلم يعد هناك طيور في غاباتنا، ولم يعد هناك ما يأكل هذه الحشرات، وبالتالي تكاثرت لتقضي على شجر الصنوبر، شجرة إثر أخرى، فهناك حلقة فقدت في التوازن الطبيعي، ولم يعد الصيادون يكتفون بسلاح الصيد المعتاد، بل يستعملون السلاح الحربي، إنه إجرام”.
وعرض نجد لـ “ظاهرة تصيب الصنوبر الأخضر (الأكواز)، وفي العام التالي وعند قطافها، نجد أنه مهترئ ولا يحتوي الثمار”.
الطبيعة تتغير
وقال رفعت حمد من منطقة العبادية لـ greenarea.info أن “هذا المرض لا يتطلب أكثر من اسبوع إلى أسبوعين ليصيب الشجرة ويقضي عليها”، وأشار إلى أنه قطع أربع أشجار ليمنع انتشار المرض في أرضه”.
وأضاف: “هناك خمس أشجار جديدة أصابها اليباس، فيما الجذوع سليمة تماما، ولكن لا نعلم ما سبب هذا المرض الغريب”، وأردف حمد: “يقولون أن ثمة دودة (يرقة) تصيب رأس الشجرة (المِلْك) وتتسبب بهذا اليباس، وقد أتى فريق من وزارة الزراعة وقام بأخذ عينات”.
وقال مشيرا إلى عدد من الأشجار التي أصابها المرض أن “بعض الأشخاص لا ينتبهون لهذه الظاهرة في أشجارهم ما يسمح بانتشارها، ويبدو أنها معدية”، وقال حمد “إن هذه الظاهرة ليست بجديدة ولكنها لم تكن بهذا الإنتشار، وقد تم التنسيق بين وزارة الزراعة وقيادة الجيش ورشوا الأحراج، ولكن لم يتابعوا هذه العملية لوقف انتشار الأمراض، ونخسر بالتالي هذه الثروة شجرة بعد شجرة، ولا يمكننا تعويضها”.
وقال: “إن الصيد هو أحد العوامل، فضلا عن الإهمال، كما أن الطبيعة تتغير، وبالتالي تسمح بانتشار هذه الأمراض، ولا نعلم مصدرها”، واشار حمد إلى أن “هناك العديد من الطيور تقل أعدادها وتنقرض”.
وأكد الشيخ رفيق مكارم على ضرورة أن “تتطلع الدولة إلى الشعب”، لافتا إلى أن “المواطن أصبح ضيفا في هذا البلد”، وقال: “هناك 15 شجرة في محيط أرضي التي تقدر بمساحة 2000 متر، أصابها اليباس، وبعضها تفوق أعمارها المئة سنة”، وطالب “وزارة الزراعة بمكافحة ظاهرة الصيد التي تطاول طيورا لا تؤكل مثل البجع وعصافير مثل الورور والسفراية والبوبانة والزرزور تقتات على الحشرات التي تصيب المزروعات والشجر”، وتساءل: “أين الدوريات التي تجوب الأحراج وتمنع هذه التعديات؟”.
نقابة وعمال مزارعي الصنوبر
وأشار رئيس “نقابة وعمال مزارعي الصنوبر في لبنان” فخري المصري لـ greenarea.info إلى أن “النقابة قد تنبهت إلى هذا الأمر منذ بدايته أي منذ أكثر من سبعة شهور، وهي ظاهرة جديدة في لبنان، وقد أخذنا عينات لعدة مختبرات منها مختبرات في الفنار، والجامعة الأميركية والكسليك، وأتى مهندسون من (الفاو)، وتابع الباحث في مجال الحشرات والبيئة الدكتور نبيل نمر من جامعة الروح القدس الكسليك هذا الأمر ولم نستطع حتى الآن التوصل إلى نتيجة مؤكدة حول هذه الظاهرة”.
وقال: “لا تفسير كاف أو معلومات صحيحة لتدلنا على المرض، وهذا المرض ينتشر أكثر في مناطق معينة، وقد طلبنا من وزارة الزراعة متابعة الموضوع عند ملاحظة يباس شجرة معينة، بأن يزيلوها من المحيط وحرقها فورا، وعدم تركها للروتين الإداري بل المبادرة فورا إلى إحراقها”، وأشار إلى أن “هناك حشرات تنخر في بعض الأشجار، وكأن هناك أكثر من مرض يصيب هذه الأشجار متسببا بيباسها”.
وأضاف المصري: “إن هذه الظاهرة ليست كبيرة إلا أنها منتشرة في كل المناطق، وتصيب الأشجار المعمرة والصغيرة على حد سواء، ونتخوف من انتقالها إلى أشجار أخرى، ما ينبئ بكارثة في قطاع الصنوبر الذين تعتاش منه أكثر من خمسة آلاف عائلة في لبنان، وتواصلنا مع وزارة الدفاع لرش الأحراج، ولكن هذا الأمر لا يفي بالحاجة المطلوبة”، وأهاب “بالمسؤولين في الوزارات المعنية إيلاء هذا الموضوع العناية القصوى وأن يرسلوا خبراء لمتابعته”.