يصوم الكثير من الأشخاص من مختلف الطوائف والمعتقدات التزاما بفرائض وتعاليم دينية أو طلبا للصحة الجيدة والنشاط، ويصوم المسلمون في شهر رمضان، لتحقيق فريضة من الفرائض الخمس، طوال شهر كامل، ومن المحبذ الصوم في أيام معينة، بعض النظر عن الانتماء الديني، خصوصا وأن ثمة مقاربة علمية للصوم، لما له من فوائد صحية مثبتة علميا.
نظرية الإلتهام الذاتي ِAutophagy
يتجه البعض إلى عملية التنظيف Cleanse، باقتصار غذائهم على نوع واحد من المغذيات أو السوائل، أو حميات إزالة السموم Detox Diets، وهي حميات تحتوي على مواد مانعة للتأكسد، للتخلص من أضرار التلوث الناتج عن الطعام والشراب والهواء، وقد تساعد هذه الممارسات، ولكن لم توثق أي منها بطريقة بحثية علمية، ولكن ما أكده العلم أن الجسم يقوم بعملية تنظيف ذاتية تسمى “الإلتهام الذاتي” أو “البلعمة الذاتية” بالإنجليزية Autophagy، فهي محطة تدوير النفايات الداخلية الشبيهة بعملية التدوير التي ينتهجها البيئيون لإعادة استعمال المواد، وذلك بالتخلص من الخلايا القديمة والمشوهة نتيجة التأكسد وغيره، بعملية تدمير ذاتية، وهذه العملية يمكن من خلالها التخلص من الخلايا السرطانية وتمنع نموها وانتشارها.
وقد وجد الباحثون أنه يمكننا تدريب أجسادنا على هذه العملية الطبيعية، فالخلايا الخاصة بالجسم تكوِّنُ أغشية تقوم بمطاردة بقايا الخلايا والخلايا المريضة، أو البالية إلى خارج الخلايا؛ تلتهمها كاملة أو كأجزاء، وتعيد استخدام الجزيئات الناتجة بهدف إنتاج الطاقة أو لبناء أجزاء خلايا جديدة.
منع الشيخوخة البيولوجية في الجسم
في هذا المجال قال الأخصائي في الطب الشعاعي للأمراض السرطانية Radiation oncologist والأستاذ المساعد في “مركز الطب بجامعة بيتسبرغ” University of Pittsburgh Medical Center، ومؤلف كتاب “الطب المضلل” Misguided Medicine كولين تشامب Colin Champ: “علينا أن نتصور الجسم على أنه يحتوي برنامج إعادة تدوير فطري، فالإلتهام الذاتي يجعلنا آلات أكثر كفاءة للتخلص من الأجزاء الخاطئة، وقف النمو السرطاني، ووقف اختلال التمثيل الغذائي مثل أمراض السمنة والسكري”.
كما أن هناك أدلة على أن هذه العملية تلعب دورا في السيطرة على الالتهابات والمناعة. فعندما جرد العلماء فئرانا من القدرة على البلعمة الذاتية، أصبحت أكثر بدانة، وكسلا، تنام أكثر، وارتفعت في دمائها معدلات الكولسترول وأصبحت أدمغتها ضعيفة، وبالإجمال فعملية “الإلتهام الذاتي” تمنع الشيخوخة البيولوجية في الجسم. وهناك خلايا متخصصة هي خلايا “الإلتهام الذاتي” Autophagosomes ، وهي عبارة عن تركيبات خلوية مزدوجة الجدار تتشكل حول الخلايا وبقاياها، التي قرر الجسم إعادة تدويرها، فكيف نشجع أجسامنا على “الإلتهام الذاتي”، بالبداية، لا بد من تعريض الجسم للضغط، والإجهاد، وهناك طرق عديدة.
الرياضة
في الواقع، فإن ممارسة التمارين الرياضية بانتظام هي الطريقة الأكثر شعبية التي يقوم بها الأفراد عن غير قصد لمساعدة الجسم لتطهير ذاته من بقايا الخلايا.
فقد بحثت دراسة بعلاقة التمارين الرياضية والإلتهام الذاتي بهندسة فئران بخلايا التهام مضيئة باللون الأخضر، ووجدوا أن المعدل الذي تقوم به الفئران بالهدم الصحي لخلاياها زادت بعد أن ركضت لمدة 30 دقيقة على آلة المشي، واستمر معدل الزيادة بعد ممارستها المشي لمدة 80 دقيقة، وقد ألهم هذا الأمر الباحثة الرئيسية الدكتورة Beth Levine لاقتناء آلة للمشي.
ماذا بالنسبة للبشر؟ يشير البروفسور المختص في علم الأحياء الخلوي في جامعة ميتشيغان الأميركية University of Michigan دانيال كليونسكي Daniel Klionsky والباحث في مجال الإلتهام الذاتي إلى أنه “من الصعب تحديد مستوى التدريب اللازم لتحفيز البلعمة الذاتية، ومدى تنظيم العملية في الوقت الحالي”، وأضاف: “ولكن من الواضح أن ممارسة الرياضة لها فوائد عدة، وبصرف النظر عن الدور الممكن في عملية البلعمة الذاتية، لذلك على الأرجح بأنه رهان جيد بشكل عام”، كما يوصي تشامب أيضا بتمارين مكثفة لنيل نتائج أفضل.
الصوم
ومن المفارقات بالنسبة للأشخاص الذين يريدون “تنظيف أجسادهم” بشرب العصير، فإن فعل الأكل يعمل في الواقع ضد البلعمة الذاتية، بالمقابل فقد اتضح بأن تخطي وجبات الطعام، هو عمل مجهد آخر قد لا يحبه الجسم على الفور، ولكن في نهاية المطاف يستفيد منه.
وقد أظهرت الأبحاث أن هناك الكثير من الفوائد السريعة في بعض الأحيان للصوم المتقطع، مثل تأثيره في التقليل من مخاطر مرض السكري وأمراض القلب وبعض هذه الدراسات رجحت أن الأمر يعود إلى البلعمة الذاتية.
وركزت الأبحاث على وجه التحديد على طريقة الصيام المتقطع التي تشجع على البلعمة الذاتية في الدماغ، ما يشير إلى أنه يمكن أن تكون وسيلة فعالة لخفض خطر الأمراض العصبية مثل الزهايمر وباركنسون، وعلى وظائف الدماغ ومرونة خلاياه العصبية الـــــ neuroplasticity.
في هذا المجال، فقد نال عالم الأحياء الخلوية الياباني Yoshinori Ohsumi جائزة نوبل للعلوم في العام 2016 عن اكتشافه ميكانيكية “الإلتهام الذاتي”، مثبتا أن التآكل والتدمير الذاتي للخلايا التالفة يحافظ على الجسم في حالة جيدة، أما الفائدة الأخرى فإن عملية التدمير الذاتي، تحفز هرمون النمو الذي يسمح بتوليد خلايا جديدة.
وأشارت أبحاث العالم الياباني إلى أن عملية البلعمة الذاتية تحتاج إلى النوع المناسب من الظروف لتحدث، ويعتبر الحرمان من المغذيات المنشط الرئيسي للبلعمة الذاتية، فعندما يكون الجسم بوضع الصوم، فإنه يشير إلى الدماغ أنه لا يوجد ما يكفي من الغذاء المتاح فيعود الجسم إلى الأطعمة المخزنة، وهذا الأمر يسمح بالالتهام الذاتي، حيث تقوم الخلايا أولا بالهجوم على البروتينات القديمة وغير المرغوب فيها في الجسم، ويحدث هذا لأن مستويات الانسولين في الجسم تتراجع وبالمقابل فالهرمون المناقض للانسولين، الغلوكاغون Glucagon يبدأ العمل في الجسم، وعندما ينشط هذا الهرمون، يبدأ البحث عن تلك الخلايا وبقاياها في الجسم المطلوب تنظيفها، ولكن حتى أدنى كمية من المواد الغذائية من السهل أن توقف عمل الغلوكاغون، لذا فإنه يتطلب الامتناع التام عن الطعام لمدة بين 12 و 36 ساعة أو ما يسمى بالصيام، ولكن يشترط في هذه الحالة شرب الكثير من الماء، ويقوم العالم الياباني بصوم شهر رمضان وأيام عدة من السنة!
في الدين الإسلامي يقول النبي محمد (ص) صوموا تصحوا، وفي طب الأيورفيدا هناك مثل يقول “جوّع البرد” Starve a cold، ومن هنا نرى أن الصوم بالمقاربة العلمية، عدا عن كونه نوعا من التهذيب الأخلاقي بالشعور مع المحرومين والواجب الديني بالنسبة للمكلفين، يساهم بالفائدة الكبيرة للجسم وخلاياه.