وضع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بلاده خارج وقائع العلم وخارج التوافق الدولي، الذي تحقق في اتفاقية باريس لمكافحة التغير المناخي، بموقف لا أخلاقي تجاه الإنسانية، بشعوبها كافة وأجيالها القادمة.
إتفاقية باريس، حظيت بمصادقة 147 دولة من أصل 197 دولة موقعة عليها. وذلك في سرعة قياسية لم تعرفها أي اتفاقية دولية أخرى. أقرّت في كانون الأول (ديسبمر) 2015 ودخلت حيز التنفيذ في 2016. في سابقة عكست إرادة دولية حازمة في السير على طريق مواجهة ومكافحة التغير المناخي، الذي بدأت آثاره السلبية تضرب العديد من مناطق العالم، في المقدمة منها، الولايات المتحدة الأميركية، موقعة خسائر كبيرة بشرية واقتصادية.
إنسحاب إدارة ترامب من هذه الاتفاقية، هو تعبير عن تراجع هذه الإدارة عن التزاماتها المناخية، التي أقرت بعد سنوات طويلة من المفاوضات الدولية الجادة، التي تمخض عنها اعتراف بالمسؤولية التاريخية للدول الصناعية المتقدمة؛ وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، عن الإسهام الرئيس بالانبعاثات التي تسبب هذه الظاهرة. وتلتها في العقدين الأخيرين بلدان أخرى ناشئة، مثل الصين والهند والبرازيل. والضحية الكبرى تبقى شعوب البلدان النامية، في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والمنطقة العربية، في شرق المتوسط وشمال إفريقيا، حيث تتعرض وهي مرشحة للتعرض مستقبلاً، للآثار المدمرة للتغير المناخي على اقتصادها واستقرارها الاجتماعي وأمانها الصحي. وهي تفتقر لعناصر القوة التقنية والمالية لتنفيذ سياسات تخفيف وتكيّف فعّالة، حيال تأثيرات التغير المناخي عليها.
إن الشعب الأميركي سوف يتأثر سلبا بهذا القرار، لأنه يتعارض مع مصالحه الحقيقية، في الصحة والأمان وتوفير الغذاء وفرص العمل والاطمئنان للمستقبل. إن إدارة ترامب بقرارها التخلي عن دورها القيادي في مسألة تغير المناخ؛ وعن الإيفاء بالتزاماتها ضمن اتفاقية باريس، تضع شعبها أولاً، وشعوب العالم كلها ثانيا، أمام تزايد تهديدات التلوث وأكلافه على الاقتصاد الأميركي واقتصادات العالم كله. وتزايد تهديدات وكلفة التدهور البيئي والخسائر المترتبة عن تراجع نمو الإقتصاد الأخضر المرتكز على بدائل الكربون.
يعتبر قرار ترامب تصرفاً فظاً يؤدي إلى أضرار كبيرة على الأجيال القادمة. ويضع دول العالم الأخرى، المنخرطة في اتفاقية باريس، أمام مسؤوليات إضافية للاستمرار في العمل على إرساء سياسات تخفيفية وتكيفية؛ وتطوير الإقتصاد العالمي على أسس جديدة، واعدة البشرية بمستقبل خالٍ من التلوث الكربوني، بحيث يستعيد المناخ العالمي استقراره، ويتم التحكم الكامل بتأثيرات تغير المناخ. هناك ولايات أميركية وأوساط اقتصادية واسعة في الولايات المتحدة الأميركية نفسها، سوف تستمر في تحمل مسؤلياتها وعملها على مكافحة تغير المناخ، واستمرار العمل من أجل اقتصاد يعتمد على الطاقة النظيفة والمتجددة.
هذا ما عبّرت عنه بيانات العديد من كبريات الدول الموقعة على اتفاقية باريس، على إثر إعلان ترامب ليلة أمس الأول. وكذلك، مواقف العديد من الأوساط الاقتصادية والشعبية في الولايات المتحدة الأميركية. ومن جهة أخرى، يعمل الإتحاد الأوروبي على تعزيز علاقاته مع الصين وكندا وغيرها من البلدان المتأثرة بتغير المناخ، ليشكلوا رافعة لاتفاقية باريس. ولمحاصرة انعكاسات وتأثيرات قرار ترامب، على سياسات المناخ العالمية؛ والعمل على الحد منها، والضغط الدبلوماسي لكي تحترم الولايات المتحدة التزاماتها لمدة ثلاث سنوات، على الأقل، من تاريخ دخول الاتفاقية حيز التنفيذ في تشرين الثاني 2016.
كان الإقتصاد العالمي، خلال القرن العشرين، مرتكزا على الطاقة الأحفورية. وهذا ما سمح للولايات المتحدة بالسيطرة عليه وقيادة العالم، باعتبارها الدولة العظمى، المسيطرة على مصادر الطاقة الاحفورية، بكل الوسائل، الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية والمالية. وقد توج العالم توجهاته الطاقوية الاستراتيجية، في إقراره اتفاقية باريس، معتبراً القرن الواحد والعشرين عصر الطاقة النظيفة المتجددة. وهكذا سيكون قرار ترامب، إنهاءً للتفوق الأميركي في الإقتصاد العالمي. وما يترتب على ذلك من إضعاف لدورها في قيادة العالم.
إن خروج الولايات المتحدة الأميركية من اتفاقية باريس، هو مؤشر على انتقالها إلى العزلة، وابتعادها عن شركائها في العالم، وعن مسؤولياتها الأخلاقية وعن التزاماتها المعلنة تجاه الأجيال الإنسانية القادمة والصحة والأمان في العالم أجمع.
هل ستمر سياسة ترامب التي تضحّي بمصير البشرية على الكوكب، لصالح احتكارات صناعة الوقود الأحفوري في أميركا والعالم؟