من يحمي ملاحات بلدة أنفه الساحلية، في شمال لبنان، ويذود عن تراثها وذاكرتها؟ ومن يحمي بعضاً من إرثنا وثقافتنا وحضارتنا؟
ليست قضية ملح فحسب. وإنما هي أبعد منها بكثير. هي “الملح المرّ”، عنوان الفساد في مختلف القطاعات والمرافق. وسط تضارب قرارات الوزارات المعنية وتمرير مشاريع استثمارية لاصحاب النفوذ، ممن لا يتورعون عن تخطي كل الاعتبارات الإنسانية، الثقافية، التراثية، البيئية، الإقتصادية والاجتماعية، لتمرير صفقاتها، التي لم يجنِ منها الوطن سوى الأذية والخراب بمختلف أشكالهما.
بدأت قصة الملح مع الفينيقيين، منذ احترفوا هذه المهنة. ونقلوا الملح عبر شواطئ أنفه إلى صيدا وصور، لتأمين الحاجات الغذائية واستعماله في صناعة الارجوان. كما أن الرومانيين أجازوا صناعة الملح، إلى أن بدأت هذه الصناعة تشهد احتكاراً في عهد الدولة العثمانية، لتمرير الملح التركي. وكذلك الأمر، في عهد الانتداب الفرنسي، حيث شهدت الصناعة مداً وجزراً حتى عهد الاستقلال. فسمح لأبناء الساحل بالعودة إلى ملاحاتهم. وتم تنظيم عمل هذه الصناعة سنة 1952 من خلال وزارة المالية.
ذهب أنفه الابيض
هذه الحرفة التي عمل فيها أهل أنفه جيلاً بعد جيل، كان لها الدور الاكبر في تعليم ابنائها وازدهارها عمرانيا واقتصادياً، خسرتها في مواجهات شرسة مع الانتهاكات في منطقة “رأس الملاليح” جنوبي أنفه، حيث تم انشاء خزانات غير شرعية لتوزيع الغاز، في مواقع الملاحات خلال الحرب الاهلية (1975). بالاضافة الى قدوم “شركة الترابة الوطنية”، التي لوثت “ذهب أنفه الابيض”. فضلاً عن قضية ملاحات رأس الناطور (شمالي أنفه) حيث تم تصنيف المنطقة سياحية. ومع ارتفاع حدّة المخاطر، التي هدّدت ملاحات المنطقة بشواطئها الصخرية، تحوّلت الاحواض إلى مصانع ومنتجعات سياحية، ليتم بعدها القضاء عليها، بغطاء سياسي وقانوني وبطرق اخرى، أجبرت أصحاب الملاحات على بيعها، أو تركها، مقابل بدل خلو للاراضي المستأجرة، على أوقاف تابعة لدير الروم الأرثوذكس. إضافة إلى بيع أراضي الساحل الشمالي واستثمارها من خلال احدى الشركات العقارية.
بعد الضغط على أرباب الملح اللبناني، من خلال ضرب الانتاج باستيراد الملح، بثلث ثمنه، من مصر، لاجبارهم على ترك الشاطئ، ألغت وزارة المال رخص الملاحات في العام 1993، بحجة أن تعطيلها للشاطئ “أمر سخيف”، مع العلم أن الترخيص الممنوح من قبل وزارة المال، للعمل في هذه الملاحات، كان يشترط “حماية وتنظيم الملاحات، مثل باقي ملاحات حوض المتوسط، بشكل يضمن استمراريتها وحسن انتاجيتها. ودراسة بيئتها بموجب معاهدة رامسار الدولية”.
تعدٍ على الاملاك البحرية
ويذكر أيضاً، أن وزارة البيئة كانت دعمت مشاريع الملاحات، بغية ادراجها على لائحة المحميات الطبيعية، التي شملتها المعاهدة الهادفة إلى الحفاظ على الاراضي الرطبة وحمايتها. وهذا يتناقض أيضاً، مع قرار وزارة الاشغال العامة، التي جاء في أحد قراراتها: “منع ترميم وصيانة الملاحات”، بحجة انها تمثل تعدياً على الاملاك البحرية! وعليه صدر القرار بالغائها ومنع انتاج الملح فيها!
وقبل القرار الاخير في العام 2011، أصدرت السلطات اللبنانية القانون رقم 178، الذي يفرض إحتواء الملح اللبناني على مادتي “اليود” و”الفلور”، التي أكدت الدراسات الطبية ضررهما على صحة الانسان. ليصار إلى اصدار المرسوم رقم 11841 في أيار 2014، الذي يلزم المعامل اللبنانية بـ”فلورة” الملح بنسبة 250 ميللغرام لكل كيلوغرام. جاء ذلك ضمن الخطة الممنهجة لضرب الملاحات، إذ كان من المعروف أن معامل تكرير الملح في لبنان، لا تملك معدات متطورة ولم يتم، طبعاً، دعمها. هذا القرار، جمد لاحقاً من قبل وزير الصحة وائل ابو فاعور، بعدما تبينت أضرار “اليود” و”الفلور” على الصحة.
جريج: ثورة الملح
يعتبر الناشط البيئي حافظ جريج، في حديثه لـ greenarea.info أنه يوم وصل إلى بلدته، قرار منع وزارة الاشغال العامة الاستحصال على رخص ترميم الأجران ومنع انتاج الملح فيها، بحجّة أنها تمثل تعديات على الأملاك البحرية، تأكد أن “هذا القرار جاء خدمة للاستثمارات والمشاريع المختلفة، على حساب الملاحات وأرزاق وحياة الناس والاملاك العامة البحرية”. ويقول: يومها انتقدت جور الادعاءات والحجج، ما دفعني، خوفاً من ضياع مستقبل ملاحات أنفه؛ والتهديد بزاول المهنة، إلى إطلاق “ثورة الملح” في مواجهة تضارب قرارات الوزارات واجراءاتها. وكذلك، “اصحاب المشاريع المفترسة وسماسرة الواجهة البحرية”.
يضيف: إن الملاحات ودواليب الهواء، نموذج بيئي، إقتصادي وسياحي، من شبكة المناطق الرطبة في حوض المتوسط. لم تقطع يوماً تواصل الشاطئ ولم تحجب المناظر الطبيعية. كما إنها لم تلوّث ولم تمنع الاهالي من السباحة ولا الصيادين من تحصيل رزقهم. وهي تتميز بغطاء واسع من الاعشاب، منها الريحان، الطيّون، الكبر؛ وشجيرات الطرفاء والبطم والارثد، أو شجرة ابراهيم. كما تألفها وترتاح فيها طيور مقيمة ومهاجرة. ويعيش في مستودعاتها الغبابيط وانواع مختلفة من الاسماك والكائنات البحرية، مما جعلها منطقة رطبة ذات نظام بيئي خاص.
تحفة المتوسط
يتابع: إن ما حصل يعتبر أسلوباً ملتوياً وتحايلاً، الهدف منه مصادرة الشاطئ على حساب البيئة والتاريخ والتراث وحياة الانسان. ويرى أنه “إن كان لا بد من اعتبار الملاحات تعدياً على الشاطئ، فقد كان العام 1952 مفصلياً، حيث جرى تنظيم استثمار الملاحات قانونياً، بموجب الحصول على تصريح ودفع رسوم، أعفتها لاحقاً وزارة المال في العام 1994، تشجيعاً على الانتاج الوطني. لكن الغاية الحقيقية كانت إزالة الوثائق من ايدي الملاحين. إلاّ أن الدولة، في المقابل، لم تحمِ هذا الانتاج من المنافسة الخارجية، بل شجعتها بإعفاء الملح المصري من الرسوم الجمركية”.
ويؤكد جريج أنه “إذا كان لا بد من إزالة أي تعديات، فلتكن التعديات على طول الشاطئ اللبناني. فلتكن الرملة البيضاء والدالية وغيرهما. ولتكن الملاحات آخر ما يتم ازالته. أو فليلغَ القرار – الجريمة بحق أنفه وانتاح الملح في لبنان”.
ويختم بالقول “ثورة الملح مستمرة. وكذلك، قافلة النضال البيئي لحماية الشاطئ اللبناني”. ويطالب “باحترام الملاحات ذات القيم الانتاجية الاقتصادية والاجتماعية والتراثية، الصديقة والصالحة للبحر وعلاقة ابنائه بالشاطئ والملح”. ويوجه نداء إلى المجتمع الدولي في يوم البيئة العالمي، للمساعدة في إنقاذ زهرة الملح اللبناني، التي تصنعها الطبيعة بإبداع وتظهر من خلال خمسة اوراق رقيقة وخفيفة، عائمة على صفحة الماء المالح. ولا فضل للانسان إلاّ في جمعها بإتقان وخبرة في عمل الملاحات، لتقديمها إلى حضارات الشعوب كأفضل مادة. ويؤكد على حماية الملاحات الاثرية، التي تعتبر تحفة المتوسط. ولا يوجد لها مثيل سوى في جزيرة غودو، حيث تهتم الدولة بها وترعاها، كجزء من تراثها. ويدعو لإنقاذها من أطماع أصحاب المشاريع التي قضمت الشاطئ اللبناني ولوثت بيئته البحرية.