أطلق في السنوات الأخيرة الكثير من المبادرات والنشاطات العالمية والإقليمية والمحلية من أجل المناخ. هي في معظمها فولكلورية، بمعنى المبالغة في شكلياتها وفي استعراضاتها، حول قضية كبيرة وخطيرة، لا تنفع معها الشكليات. تجمع هذه المبادرات خلطات عجيبة غريبة، فيها صناعيون ومصارف وإدارات رسمية وبرامج أمم متحدة وجمعيات أهلية وشركات… تكرم وتمتدح نفسها وبعضها، في حفلات استعراضية لا تهدف إلا إلى إطلاق دعايات وإعلانات تحت مسمى “التوعية”.
فهل هذا ما تحتاج إليه قضية تغير المناخ؟
فتغيير لمبة متوهجة بأخرى موفرة للطاقة لن يسهم في حل قضية تغير المناخ، إذا لم تكن من ضمن إطار أوسع لتغيير سياسات الطاقة، على سبيل المثال. حتى إن قروض مصرف لبنان “البيئية” المدعومة، لن تنفع إذا لم تكن من ضمن استراتيجيات وطنية للتنمية المستدامة وسياسات مختلفة، في القطاعات كافة، للحد فعلاً من تغير المناخ. إلا إذا افترضنا، أن كل شركة وكل جمعية وكل مصرف ومؤسسة باتت تعتبر نفسها دولة! وأن مجموع مبادرات صغيرة يمكن أن تنقذ كوكباً!
فمن تتبع فعلاً المفاوضات الدولية السنوية لقضية تغير المناخ منذ عام 1992، تاريخ وضع أول اتفاقية إطارية عالمية حول قضية تغير المناخ، ومن راجع التقارير الدولية (الخمسة) ذات الصلة، يعرف مدى تعقيدات هذه القضية ومتطلباتها الحقيقية، ومدى فداحة انعكاساتها، التي خرجت عن السيطرة منذ زمن بعيد، بعد أن بدأت بالتراكم منذ بداية “الثورة الصناعية”. فمن تابع كل ذلك، يعرف أيضاً، أن هذه القضية التي نجمت عن تغيير “ثوري” في الحضارة الإنسانية، لا يمكن أن تتم معالجتها إلا بثورة مضادة تؤدي إلى تغيير كل الأفكار والقيم والسياسات… لا بل كل النموذج الحضاري الذي نعيشه.
انطلاقاً من ذلك، تصبح كل تلك المبادرات الصغيرة، شكلية وهامشية، بالنسبة إلى قضايا تحتاج إلى مبادرات وتغيير جوهري، في عمق الحضارة والحياة التي نعيشها.
ليست الشكليات وحدها هي التي ستقتلنا، كما كتبنا سابقاً. فالتناقضات الذاتية قاتلة أيضاً. فالمصارف التي تقدم “قروضاً بيئية” صغيرة مدعومة هي نفسها التي تقدم قروضاً كبيرة لتجارات وصناعات مدمرة على مستوى البيئة والمناخ. والأموال التي تصرف على الاستثمارات الكبيرة المغيّرة لمناخ العالم، تكاد لا تقارن بتلك التي تصرف حتى على ما يسمى الاستثمار في التكنولوجيا الخضراء!
كما أن مبادرات وزارية مثل الاستثمار في طاقة الرياح التي أقرها مجلس الوزراء في جلسته أمس، تكاد لا تذكر بالنسبة إلى مفاعيل قرارات وسياسات أخرى متناقضة للوزارة نفسها، عندما تجتهد وتستنفر بشكل جنوني في التحضير للاستثمار في التنقيب عن النفط والغاز، هذه المواد المتهمة الرئيسية بالتسبب في قضية تغير المناخ!
اما بعض الجمعيات الصغيرة، التي تربت على الأفكار الصغيرة التي تروج لها كبريات الشركات والجهات المانحة (الممولة من شركات كبرى لها موازنات واستثمارات أكبر من موازنات الدول)، كفكرة ضرورة تصغير الأهداف حتى تتمكن من قياس مستويات النجاح، أي كلما كان الهدف من أي نشاط أو مبادرة صغيراً، كلما استطاعت أن تنجح وأن تظهر مدى نجاحها في تحقيقه… فنقول لها مبروك وكان العرض جميلاً. وإن تحضير حفل ودعوة حاكم مصرف لبنان أو وزير أو أسماء لمؤسسات كبيرة أو مؤسسات أجنبية أو خبراء أجانب وتدبيج شعارات واهية واستخدام كلمات كبيرة بالأجنبية… فإن مجرد تلبية هؤلاء الدعوة والصعود إلى المنبر وأخذ الصورة التذكارية (والبناء عليها في المستقبل)… هو الإنجاز والنجاح بعينه!
وإن المناخ لا بدّ أن يتغيّر.