في هذا الوقت من كل عام تفقس بيوض السلاحف على الشواطىء الرملية، وتخرج من أعشاشها وجهتها البحر، لتنطلق في رحلتها الأولى إلى عالمها الرحب، إلى الأزرق اللامتناهي مندمجة في محيطها الحيوي وفي دروة حياة تمثل جزءا من منظومة متكاملة في بيئتها البحرية، وفي النظم الإيكولوجية، خصوصا وأنها تعتبر من الكائنات التي يرقى تاريخ ظهورها إلى ملايين السنين.
وليس ثمة ما هو أجمل من مواكبة هذه الكائنات الصغيرة وهي تعبر الشاطىء نحو البحر، وما وثقه موقعنا greenarea.info من على شاطىء المنصوري في قضاء صور، ارتدى طابع الاحتفال، وسط عدد من المواطنين بينهم أولاد وأطفال احتضنوا صغار السلاحف وأطلقوها بفرح وهم يتمنوا لها أن تعود ذات يوم لتجد الشاطىء الذي منه انطلقت، وألا يسبقها إليه من يؤثرون تخريبه وتدميره لصالح مشاريع سياحية تهدم ما بقي من معالم طبيعية.
تعميم ثقافة بيئية
تواجه هذه الكائنات واقعا مأساويا، لا بل كارثيا نتيجة اندثار موائلها على امتداد الشاطىء اللبناني، لا سيما وأن التعديات على الشواطئ مستمرة من قبل نافذين في الدولة أو مستثمرين من يحظون بغطاء سياسي، خصوصا وأن معظم الشاطىء اللبناني شهد وما يزال بناء مرافق سياحية ومجمعات سكنية، بمجملها لا تراعي الاستدامة، لا بل هي ملوثة للبيئة البحرية، وتشكل خطرا على الأحياء البحرية، وفي مقدمها السلاحف.
أعداد كبيرة من المواطنين لا تلتزم حماية هذه الكائنات البحرية، لكن من جهة ثانية، ثمة مبادرات تمكنت من تعميم ثقافة بيئية في حدود كبيرة، ومع ذلك يتم تسجيل الكثير من التعديات على البحر وكائناته.
وفي هذا المجال، واكبgreenarea.info الجمعيات الناشطة في مجال حماية السلاحف في مناطق الرملة البيضاء، صيدا، صور والمنصوري، لا سيما رعاية أعشاشها، وتوفير “ممرات” تتيح لصغارها بدء دورة حياة جديدة في البحر، آخرها إطلاق 66 سلحفاة من نوع caretta caretta مساء أمس عند شاطئ حمى المنصوري _ جنوب لبنان.
حمى المنصوري
في الحديث عن السلاحف البحرية ورعايتها والاهتمام بها، لا يمكن إلا أن نطل على تجربة رائدة في هذا المجال، وهي تجربة منى خليل، السيدة التي جعلت الشاطئ بالقرب من منزلها في بلدة المنصوري موطنا للسلاحف البحرية وأعشاشها، ودافعت عن الثروة البحرية المهدّدة بالانقراض، وخاضت معارك كثيرة مع البلدية وبعض النافذين بعد عودتها من هولندا قبل ما يزيد عن عشرين عاما، إلى أن نالت اعترافاً رسمياً عام 2008 بتحويل الشاطئ على مساحة كيلومتر ونصف الكيلومتر إلى حِمى بحرية.
وقالت السيدة خليل في حديث لـgreenarea.info : “أقوم برعاية السلاحف بأقل الامكانيات المادية المتوافرة التي أكسبها من بدل تأجير غرف منزلي لرواد الشاطئ من المقيمين والاجانب”.
اللافت للانتباه انها تعمل على حماية السلاحف بمجهودها الشخصي وبعض المهتمين المقربين بطرق مدروسة وعلمية، إكتسبتها بعد خبرة طويلة وسنوات طويلة من الجهد والمثابرة، وبعد دورات تدريبية عديدة في الخارج، فضلا عن مشاركتها بالمؤتمرات العلمية المتخصصة.
وتابعت خليل: “هذا العمل يأخذ معظم وقتي، أنظف الشاطئ وأراقب وأتجول يوميا لتحديد حركة السلاحف وأماكن الاعشاش، ثم أقوم بتسييجها لحمايتها من الحيوانات وغيرها من المتفترسات، وأنتظر بفارغ الصبر خروج صغار السلاحف من بيضها إلى البحر”.
وهذا ما يعلمه متتبعو صفحتها على “فيسبوك”، وما نعلمه أيضا فيgreenarea.info من خلال زياراتنا لها ومتابعتها، خصوصا بعد ما تعرض الشاطئ في الفترة الاخيرة لتهديد تمثل في بناء منتجع سياحي مخالف لتصنيف المنطقة الزراعي، وتحديدا عند حدود الحمى.
وعن هذا الأمر، قالت خليل: “لست ضد بناء أي مسكن عند الشاطئ شرط أن يطابق من حيث المواصفات منزلي وحديقتي، واسلوب الحياة البيئي السليم”، وأكدت أن “علينا جميعا أن نحترم الطبيعة الأم كي لا تثور يوما ما علينا”.
فرصة لا تعوض
وفي متابعة لخروج صغار السلاحف ، فقد بدأت منذ أمس الأول السلاحف الصغيرة الخروج من بيوضها، وعلى الفور قامت السيدة خليل بدعوة المهتمين وحرصت على حضور ومشاركة الأطفال لمشاهدة عملية إطلاق 66 سلحفاة حصيلة ما بقي على قيد الحياة من العش الاول، وحضرت مجموعة من بعض الناشطين والاهالي والاطفال، وتوجه الجميع نحو الشاطئ وتم اطلاق السلاحف وسط جو من الفرح، وتساؤلات طرحها الاطفال والكبار حول رحلتها الأولى إلى البحر، وتولت خليل الإجابة عليها.
وما إن مضت السلاحف نحو البحر ولامست المياه، حتى صفق لها الحضور، وبدا هذا المشهد الرائع فرصة لا تعوض، “سيظل راسخا في الذاكرة خصوصا لدى الاطفال” بحسب السيدة خليل.
حتى الآن سجلت ورصدت منى خليل خروج صغار أول عشين، أطلقت أولها، واليوم مع المغيب ستطلق الثاني، ويتضمن عددا أكبر من السلاحف، وأيضا بمشاركة الزوار والاطفال الذين دعتهم، وسيشهد شاطئ المنصوري ولادة كائنات هي بمثابة هدية مشرفة من بحر لبنان الى المتوسط، فيما “تهدي” حكومتنا البحر نفسه نفايات وملوثات!