غالباً ما يفسر تعبير الفساد على أنه الرشوة، ونادراً ما يقال إنه تقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة. المصلحة تكون أحياناً فردية، واحياناً كثيرة جماعية، طائفية او مذهبية او اثنية، حيث يقدّم كل من هذه الجماعات مصلحته على المصلحة العامة الوطنية والقومية. أنانية الأفراد والجماعات أمر مفروغ منه. فساد الفرد جريمة يعاقب عليها، اذا انكشفت. فساد الجماعات يعتبره اصحابه انجازاً يهنؤون عليه. وغالباً ما يكون فساد الأفراد لصالح الجماعات الطائفية والفصائل الاجتماعية.
الفساد الآخر أشد وأدهى، وهو عندما تستغل موارد المجتمع المادية والبشرية في غير موضعها، او لا تستغل على الاطلاق. الفساد الذي تحدثنا عنه في المقطع الاول يمكن ان يتزامن مع العمل والانتاج ويكون هامشاً وان سيئاً للتقدم. اما الفساد بتالمعنى الثاني فهو سبب للضعف والتأخر وهدر الموارد من دون طائل، او وضعها تحت سيطرة قوى من خارج المجتمع. الهدر أشد خطراً من الفساد. وهو يعني ان نكون قادرين على انتاج الكهرباء ولا ننتجها، وعلى انتاج الماء ولا ننتجه، وعلى رصف الطرقات وتزفيتها ولا نفعل ذلك، وعلى جمع النفايات ومعالجتها ولا نفعل ذلك، او نفعل ذلك بطريقة كاريكاتورية تخالف القانون علناً والدستور حكماً.
الهدر أعلى درجات الفساد. نحن كغيرنا من البلدان العربية نهدر انفسنا ومواردنا من دون طائل. وما تأخر الانتاج الزراعي والصناعي الا في سياق هذا الهدر. اما هدر الطاقات البشرية فهو يحدث عن طريق الدين السياسي والحرب الاهلية اضافة الى البرامج التعليمية التي تنتج بعضا من المعرفة التقنية وكثيراً من الجهل بالمعرفة العلمية والانسانية. وفق ذلك تنتج الكثير من البديهيات والمقدسات التي تغلق العقل ولا تبقي مجالاً للتفكير. الهدر مادي ومعنوي، هو في شموليته يكاد يزرع اليأس في النفوس.
الامكانيات كثيرة، في باطن الارض و فوقها، على وجه هذه الارض او في العقول. لكننا نعجز عن استخدام كل ذلك. ولا يمكن تصنيف هذا العجز الا انه مسألة سياسية. ننكر معنى السياسة، على انها ليست الصراع على السلطة وحسب، بل هي في الاساس ادارة شؤون المجتمع الاقتصادية، المادية والمعنوية. السياسة بهذا المعنى هي من النوادر في الممارسة في لبنان والبلدان العربية. من اجل ذلك صارت السياسة عيباً او دليلاً على ان صاحبها اشبه بالمحتال والنصاب، لانه غير معني بالمجتمع، وهو معني بالسلطة وحسب، وذلك على حساب المجتمع. ومن اجل تلبية رغبات هذا الزعيم او ذاك. في هذا النوع من السياسة السلطوية يصير السياسي تابعاً ( عبداً) لا قائداً اجتماعياً.
حقيقة الامر ان الهدر يفسد في عقول الكثيرين معنى الفساد. افسد ما في الفساد ضياع مصلحة المجتمع لصالح مصالح آنية او فردية عبرعصابات من النصابين في السلطة، لا فرق كبيراً بينهم وبين المافيات. هم مضطرون الى مناقشة كل شيء في السر. لا خوفاً من الناس، بل من اجل ان تتم الصفقات بأمان. أمن الصفقة أهم من أمن المجتمع.
السياسة بمعنى النقاش والحوار والتسويات لا تكون جدية الا في مجتمع مفتوح. السياسة السلطوية لا تكون الا في مجتمع مغلق، في غرف سرية؟! لا يخاف احد من مناقشة امور الزراعة والصناعة والخدمات والبنى التحتية في العلن. يخاف الجميع مناقشة الصفقات الفردية في العلن. على كل حال، وبسبب انهيار معنى الدولة والسياسة والسوية العقلية، لم يعد احد يخاف من البهدلة، كل واحد منهم سلخ جلدة قفاه ليضعها على وجهه ” اللي استحوا ماتوا”.
رغم ذلك، يراد لنا ان يناقش الجميع مسائل الفساد وان نتناسى مسألة الهدر. يعتبر البعض ان الفساد مسألة اخلاقية، لكننا عندما نرفعها الى مكانها الحقيقي كجزء من منظومة الهدر فان فهمها على انها مسألة سياسية يصير امراً سهلاً. محاسبة الفساد الفردي تقع على عاتق القضاء. محاسبة الهدر تقع على عاتق المجتمع السياسي ( يقال المدني من اجل تكريس غياب السياسة).
نضالات طويلة على مدى سنوات من اجل سلسلة الرتب والرواتب. المبلغ الاجمالي المطلوب هو مليار ومايتي الف دولار. لكنه بسرعة صاروخية يتم تحرير هندسة مالية تعطي كبار المصرفيين اكثر من خمسة مليارات دولار. لا يتعلق موضوعنا هنا بصحة هذا او ذاك، علماً بأن الأجور يجب ان ترتفع والثروات الكبرى يجب ان تنخفض من اجل الاقتراب من شيء يشبه المساواة الاجتماعية، وهذا واجب اخلاقي.
لكن اللافت ان السلسلة ما زالت تناقش رغم اقرارها في المجلس النيابي، في حين ان الهندسة المالية لم تناقش أبداً ( البعض دافع عن ضرورتها، والبعض هاجمها واغلق باب النقاش)
لا يعرف اهل السياسة كيفية تمويل السلسلة، ويعرف تكنوقراطيو النظام المالي كيفية تمويل المصارف. السلسلة تتبع السلطة السياسية، والهندسة المالية تتبع التكنوقراط، على الرغم من انها ليست تقنية بل اجتماعية سياسية. يغيب عن بال الجميع ان دافع الضرائب سوف يموّل في الحالتين. دافعوا الضرائب هم الطبقات الدنيا.
انتقل لبنان، كغيره من بلدان العالم، من ” دولة الضرائب” الى “دولة الدين” كما يقول احد كبار الباحثين. الضرائب تناقش في المجال العام وفي الفضاء السياسي، ومن ضمنه مجلس النواب. الدين لا يناقش الا في أروقة الخبراء والتكنوقراط. الطبقة السياسية تناقش الضرائب ولا تناقش الدين بما فيه الدين العام علماً بأن كميات هذا الاخير اكبر بكثير.
الفساد في لبنان وغيره، لم يعد نتيجة سياسة فاسدة. جرى تصعيده الى مستوى الهدر ليصير نتيجة حتمية لالغاء السياسة. لم تعد الطبقة العليا مهتمة بخصخصة بعض المنشآت قدر اهتمامها بخصخصة المال العام، وبالاخص الدين العام. عن طريق الدين العام تصير الدولة ملكاً للطبقة العليا بما فيها المصارف. هذا الشأن يقرره موظفون لدى الدولة بولاء تام لطبقة بعينها.
ربما كان هذا الدافع الاساسي وراء الغاء الانمتخابات النيابية، بالاحرى تأجيلها ثلاث مرات في حين أجريت انتخابات بلدية، وهي اشد ضراوة، من دون حادثة واحدة. الاسباب ليست امنية. الاسباب تعود الى الغاء السياسة من اجل القضاء على الديمقراطية، وجهان لعملة واحدة. الغاء الواحدة منهما يؤدي الى الغاء الاخرى. لقد ضاقت السبل في وجه الطبقة العليا حتى انها لم تعد تطيق انتخابات نيابية، حتى ولو كانت الديمقراطية فيها تعاني نقصاً كبيراً. يمارسون عندنا استبداداً مستتراً ربما كان هذا ما يريدون التستر عليه.
هدر الامكانيات براً وبحراً، تراكم الدين العام والخاص، غياب السياسة، أفول الديمقراطية. كل ذلك يعالج بالبطالة والهجرة. سلطة لا تحتاج الى شعب. عندما تلغي السياسة فانت تلغي الشعب.
هل يتركون لنا مقهى على قارعة الطريق نمارس فيه بعض النقاش كما نمارس مهنة التشاؤم؟