الدولة المدنية هي الدولة الحديثة. قبلها كانت الدولة نظاماً للقمع، مجرد نظام للقمع يمارس السلطة فيه ملك أو أمير أو امبراطور، هو الذي يضع القوانين وينفذها. الرعايا يطيعون ولا يشاركون؛ هم ليسوا مواطنين مشاركين. يتقاسم الحاكم السلطة الى درجة محدودة مع طبقة من كبار ملاكي الارض وبيروقراطيي الديوان او البلاط ، بالاحرى يتشاور معهم ومع بعض اعيان التجار وبورجوازيي المدن؛ لكنه هو الآمر الناهي. حكم الطاغية قانون ودستور مهما كان عشوائياً.
مشاركة الطبقات الدنيا في السياسة، في المصير، في القرارات المتخذة من الملك واعوانه تطلبت الكثير من النضالات والثورات عبر مئات السنين. وربما تطلب الامر احياناً الاطاحة بالملك نفسه من أجل اسقاط نظامه. لم يكن التطور تدريجياً، ربما تطلب احياناً ثورات تحقق ما يمكن تحقيقه. لا ثورة الا تبعتها ثورة مضادة من الطبقات العليا. هذه لا تتنازل عن اسلابها التاريخية بسهولة، لكن الثورة المضادة نفسها لا تنتصر الا بتغييرات في النظام القديم. تتراكم الاصلاحات داخل النظام القديم وتتشكل الدولة من النظام.
يتحول النظام الى دولة بمقدار ما تتوسع مشاركة الناس في هذه الدولة ويتحولون من رعايا وجدوا للطاعة الى مواطنين مهمتهم المشاركة. يشاركون في مجالس تمثيلية وبرلمانات، يعطون وكالات التمثيل لهذه المجالس. ربما كان التمثيل وهماً جميلاً لكن الاهم ان القوانين ترسم، بعدالة أو بغيرها، ويتوجب على الجميع، نظرياً على الاقل، التقيد بها. في ذلك خلاص من العشوائية. هناك عقد بين المحكومين والحكام، عقد شارك فيه المحكومون، والمفترض عدم تجاوزه حتى لدى أهل السلطة. يجري تحديد الحقوق والواجبات عبر القوانين. يناضل الناس من أجل مزيد من الحقوق. مشاركتهم في النظام المتحول الى دولة تجعلهم اكثر قدرة على نيل الحقوق وتجعلهم اكثر استعداداً للقيام بالواجبات.
تنغرزالدولة في ضميرهم، يصيرون جزءاً منها. تصير الدولة جزءا منهم، ينغرزون هم في كيانها. حينها، تقوم شرعية الدولة على رضى الناس، وهذا ما يسمى الديمقراطية. حين تفقد رضى الناس تعود الدولة نظاماً لا يستطيع فرض نفسه الا بالقوة. الدولة الفارضة نفسها بالقوة والعنف من دون الشرعية برضى الناس، هي نظام للقمع. الدولة المدنية هي التي يشارك فيها الناس، يشاركون في القرارات وفي التشريع وفي تقرير مصيرهم. هي الدولة التي تصدر عنها السلطة التي تصدرعن الناس. الشعب مصدر السلطات في الدولة المدنية.
يدعي اصحاب الاسلام السياسي ان الشريعة هي الحل، وانها يجب ان تكون مصدر التشريع. هي الامر الالهي بنظرهم. لكنهم ينكرون ان الوحي حين يمر بالعقل البشري يصير نسبياً ويصير معرفة بشرية. وينكرون ان كل القوانين وضعية، من وضع الانسان، وان كل من يصوغ قانوناَ لا يفعل ذلك الا انطلاقاً من خلفيته الثقافية والدينية والتربوية. وان فهم الكتاب المقدس يحتاج الى عملية دائمة من التفسير والاّ تعسّر الفهم؛ وان صدور تفسيرات جديدة كل بضع سنوات يعبر عن هذا الواقع، وان الفهم الجامد للنص يطيح به، وان كل قراءة جديدة للنص تقود الى فهم جديد، وان مصير الانسان الى التقدم يكون بالتجاوز لا بالجمود في مكان واحد وزمان واحد. تتغير الاحكام بتغير الامكنة وتغير الازمنة. رفض الامام مالك نشر كتابه (الموطأ) في الحديث لهذا السبب، مع ان الطلب كان صادراً عن الخليفة.
من يرفض الدولة المدنية يرفض الحداثة، لا يدري ان الحداثة دخلت الى قاع ذواتنا وهي تشكل طرائق تفكيرنا، شئنا أم أبينا. ان الكثير مما يدخل بلادنا من وسائل التكنولوجيا كالهواتف والسيارات والالات هو اكثر مما نستطيع ان نستوعب بعقل يرفض الحداثة. عندما نستهلك التكنولوجيا فاننا نستهلك الحداثة من دون الاقرار بها ومن دون الفهم بها. لكننا لا نستطيع استيعاب الحداثة من دون صنعها، نصنعها عندما نفهمها ونتبناها. لا عجب اذاً، اذا صار مجتمعنا العربي (مجتمعاتنا) مجتمعاً استهلاكياً محضاً لا انتاجياً. نستورد الكثير من المواد الغذائية لأننا لا ننتج. تُصنع لنا حداثتنا ولا نصنعها. وهل يؤمل بنهوضنا اذا لم نصبح مجتمعاً منتجاً؟
الدولة المدنية، دولة الشعب، منه واليه، يرفضها الطغاة ودعاة الاسلام السياسي، احدهما بالنيابة عن الله، والآخر بالنيابة عن نفسه وعن الله. كلاهما رفع نفسه الى مستوى الله واعتبر نفسه الوكيل ان لم يكن البديل. كلاهما صادر الله والدين والمجتمع وحول كليهما الى اداة للتصفيق وجماعة للتبرير وجمهور لطاعة أولي الامر.
الدولة المدنية هي الدولة وحسب، الدولة شرط لما عداها ولا شروط عليها. هي الاطار الناظم للمجتمع. هي دولة الفرد صاحب الضمير، ولا موقع للضمير والاخلاق خارج الفرد. الدين والمجتمع والتراث ينتسب كل واحد منها لكائن غير الضمير الفردي، كالله او التاريخ او السلف الذي نفترضه؛ كل واحد منها يرفض ان يكون الضمير هوية الانسان، هوية تعبر عما في الانسان لا عما في خارجه. المجتمع عادة فاقد الاخلاق لأنه يضعها خارج الضمير الفردي. لا ينتمي الفرد الى نفسه عندما يسلم قيادة نفسه وروحه لكائن خارجهما. يتخلى الفرد عن الاخلاق عندما يتبع الله، والمجتمع كما كان، والتراث كما يتوهم. يسترد الفرد اخلاقه بأن يتبع سلوكه، وما يفكر فيه، من ذاته. من هذا الفرد تتشكل الدولة المدنية، هي لا تنتظر صوتاً من الخارج كي تتحرك او تتحقق، هي حركة وتحقيق الضمير الداخلي في الفرد عندما يؤكد ذاته في المجتمع وينتظم في الدولة. يخضع للقانون والدستور، وهما خارجيان ؟ نعم. لكن القانون والدستور صنعهما هو، هذا الفرد، هذا المجتمع بوصفه يتشكل من أفراد. هو قانون وضعي، نعم. يفوق شرفاً قانونا مستمدا من الشريعة يدعيه الاسلاميون صادراً عن الله. الله ليس ممثلاً للانسان في البرلمان. كل قانون وضعي (وضعه الانسان) اكثر رحمة للبشر من قانون يدعي اصحابه المصدر الالهي. كل قانون مصدره البشر، مهما كانت الادعاءات، لكن بعضها صادق في تبيان المصدر والاخرى تكذب لإخفاء المصدر. الاولى يحق لها الافتخار، والثانية يتوجب عليها الاختفاء فعلاً.
ان شعار تطبيق الشريعة ليس مطلباً دينياً بل هو مطلب سياسي. هو مطلب فيه كثير من المكر؛ اوله اختصار تعدد الهويات في كل فرد منا الى هوية واحدة دينية. كل منا متعدد الهويات: الاتنية والانتماء الجغرافي والطبقية والمهنية والسياسية. اما اختصار هذا التعدد ضمن اختصار اكبر على صعيد المجتمع فيحول هذا المجتمع الى فرق متضادة. الحديث النبوي عن الفرقة الناجية انه ستفترق امتي الى 72 فرقة ، واحدة منها هي الناجية اورده الامام الغزالي معكوساً. ان فرقة واحدة هي الضالة للتأكيد على التعددية وكل الفرق الاخرى ناجية. بالطبع يهمل دعاة الدين السياسي ذلك من أجل الاحادية. كلما تحكمت الاحادية بأفراد المجتمع يميل هذا الى الحرب الاهلية. كل مجتمع سيطر عليه الدين السياسي يميل الى الحرب الاهلية ويغرق فيه. بفقدان التعددية يفقد الفرد تسامحه ويصطف المجتمع على خطوط تبادل النار، والحرب أولها كلام.
شعار تطبيق الشريعة مطلب سياسي لأنه يفترض ان للشريعة تفسيراً واحداً، وينكر ان الكتاب المقدس حمال أوجه، ويعطل ملكة التفكير، ويضطرنا الى الاخذ بالتفسير الذي تدعيه الفرقة القادرة على مصادرة الله وكلامه وهي وجهة نظر مجحفة بحق الله وكلامه. يصادرون كلام الله ليقولوا انهم وحدهم الاسلام الصحيح وان خصومهم هم الجاهلية، وهؤلاء يتوجب قتالهم قتال العدو. بنظرهم الاقرب أولى من قتال العدو الابعد. الحرب الاهلية اولى من الدفاع عن ارض الدولة ضد من يتهددها من الخارج.
الفصام الديني الذي يؤدي اليه شعارا ” تطبيق الشريعة ” و ” الاسلام هو الحل ” فيه انكار للتاريخ. لماذا لم يكن الامر كذلك عبر التاريخ ؟ لماذا اقتتل المسلمون عبر التاريخ ؟ ولماذا كفر بعضهم بعضاً ؟ ولماذا ولماذا ؟ لا اجابات، بل اصرار على سيطرة المذهب الواحد ومصادرة ركاز الارض (ما تحت الارض) ومصادرة ما يجري على الارض والدفاع عن الحزب الواحد (الذي يلغي الآخرين الغاء جازماً). الامر يوضع عند ابن تيمية وهو عميق الغور عند كل الدين السياسي.
فصام الدين السياسي هو عدم الاعتراف للآخر بحقيقة ما. يدعون ان الحقيقة التي يدركونها هي كل ما في الامر. يفقدون القدرة على العيش مع من لا يوافقهم الرأي، تضيق بهم الدنيا، فلا بدّ لهم من الانتحار.
الدولة المدنية هي دولة السياسة والحوار والتسامح؛ هي الدولة التي ينشئها الانسان ويبدع قوانينها معترفاً سلفاً بقصوره وبنسبية المعرفة البشرية. من يمتلك الحقيقة كاملة، لا بدّ وان يدافع عنها ويدعو اليها ويعتبر نفسه سفير الله على هذه الارض او الله سفيره في السماء. وهما يفترضان انهما يشاركان في هداية الناس، هداية المسلمين بعد ان صاروا كذلك منذ 15 قرناً.
لا علاقة للدولة المدنية بالايمان بالله. تستطيع ان تكون مؤمناً كما شئت. وان تتبع الدين الذي تختاره او يختاره لك الاباء، لكن دخولك في السياسة، في الحيّز العام، في الساحة العامة، في الحوار مع الآخرين أمر واجب. تسمح لهم بما تسمح لنفسك، وتترك الحساب لليوم الآخر، للديان، وتمتنع عن الحساب على هذه الارض. تقوم الدولة المدنية على وجود ناس ذوي سوية عقلية ونفسية وموقف يستند الى احترام رأي الاخرين وعدم التعالي عليهم وعلى اعتبار ان عندهم شيئاً يقولونه، وان ما يقولونه يستحق الاعتبار، سواء بكليته او بجزء منه.
ناس يقولون: رأيي صح يحتمل الخطأ، ورأي الخصم خطأ يحتمل الصواب.