بالرغم من كل التحولات والتبدلات التي تحدث في المنطقة ولا سيما في دول الاتحاد الأوروبي نفسها، لا يزال ممثلو الاتحاد الأوروبي يرددون المقولات نفسها، أن “لا أمن من دون تنمية ولا تنمية من دون أمن”.
كما لا تزال أولوياتهم هي نفسها، أمن الاتحاد، ضمن استراتيجية دفاعية مشتركة، مع موقف واحد من “الإرهاب” واللاجئين وإجراءات الحماية، لا سيما حول انتقال الأشخاص، وزيادة مرونة دول الاتحاد تجاه الإصلاحات والسياسات المطلوبة، والمحافظة على أنماط التنمية نفسها والمساعدة في حل النزاعات ودعم النظم الإقليمية نفسها (كجامعة الدول العربية) والمحافظة على التعاون الاقتصادي، والافتخار بأن التجارة والتعاون الاقتصادي بين دول الاتحاد الأوروبي والبلدان العربية، هي أكبر من تلك التي بين الدول العربية نفسها. هذه خلاصة المواقف والسياسات التنموية الجديدة القديمة لبعض ممثلي الاتحاد الذين شاركوا في منتدى سياسات التنمية المتعدد الأطراف الذي عقد في البحر الميت بين 3 و4 الجاري، والذي ضم ممثلين عن بعض منظمات المجتمع المدني والسلطات المحلية والقطاع الخاص.
المجتمع المدني من جهته لم يغير في مقارباته للشراكة الاورومتوسطية، وهو لا يزال يطالب بإشراكه مع السلطات في صنع القرار ويتبنى الأجندات نفسها، من أجندة قمة الأرض في الريو عام 1992 إلى أجندة عام 2030 للتنمية المستدامة والربط بين القضايا الحقوقية والديمقراطية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية والشفافية والمحاسبة والمواطنية والحوار والشراكة…إلخ
لعل أول فكرة تحتاج إلى مراجعة، هي ربط فكرة الأمن بالتنمية، لا سيما في البلدان التي ليس فيها حروب مباشرة أو تعاني من الاحتلالات المباشرة. فتأمين الأمن في دول شبه مستقرة، يعتبر أكبر عائق أمام التنمية، إن من ناحية كلفة التسلح، أو من ناحية حجم الإنفاق على الأمن في الموازنات للدول التي تتجاوز أكثر من ثلث الموازنة، أي بعشرات أضعاف موازنات وزارات مثل البيئة والزراعة على سبيل المثال. وإذا كان الاتحاد الأوروبي لا ينفق الكثير في هذا الميدان في رحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو يتعرض دائماً للتأنيب واللوم من الولايات المتحدة الأميركية بأنه لا يدعم الأحلاف التي يدخل فيها معها. إلا أنه في المقابل، لا ينتج سياسات مغايرة ولم ينجح في المساهمة في حلّ النزاعات ووقف الاحتلالات والاعتداءات وحلّ القضايا (وفي طليعتها القضية الفلسطينية).
حتى أن تركيزه على الشق الاقتصادي بدأ يتراجع منذ مدة طويلة، وها هي دول مثل الصين وكوريا وتايوان بدأت بمنافسته في الأسواق بشكل لم يسبق له مثيل، لدرجة أن ساعدت الصين دولاً أوروبية على وشك الانهيار الاقتصادي، أكثر من دول الاتحاد.
وكما فقد النموذج الاقتصادي والتنموي بريقه مع المنافسة الآسيوية الشرسة التي تبنت النموذج الغربي في التنمية وتفوقت عليه، فقد أيضاً النموذج الديمقراطي والحقوقي الغربي معناه أيضاً، بعد أن تعرض الاتحاد لأزمات حادة ومتسارعة مؤخراً، بين انفصال بريطانيا عن الاتحاد ومطالبة كاتالونيا بالانفصال عن إسبانيا وبداية صعود اليمين المتطرف في الفترة الأخيرة في أكثر من استفتاء ومحطة انتخابية (حصول اليمين المتطرف “البديل” على أكثر من 13% من الأصوات في الانتخابات الألمانية الأخيرة). مما يعني بداية انهيار نموذج الدولة – الأمة الديمقراطية، التي طالما روّجت لها الأمم الأوروبية في العالم عامة وفي “مستعمراتها” خاصة… وقد وصلنا الى مرحلة بتنا نسمع فيها كبار البرلمانيين الكاتالونيين يتحدث في أكثر من مناسبة عن منطقته بوصفها “مستعمرة إسبانية”!
وإذ يبدو أننا دخلنا مرحلة إعادة خلط الأوراق على كل المستويات، ومرحلة أزمات متعددة الأوجه ومجهولة النتائج، بقيت قضية واحدة، تذكّر العالم بضرورة التعاون بدل التنافس، هي قضية تغير المناخ بآثارها المدمرة في كل اتجاه، والتي لا يزال الاتحاد الأوروبي متمسكاً ببعض متطلبات معالجتها، بالمقارنة مع الولايات المتحدة الأميركية المتنصلة، على الأقل في عهد الرئيس ترامب. لا تزال هذه القضية تشكل فرصة لصياغة شيء جديد على المستوى الأوروبي أولاً والعالمي ثانياً. ينطلق هذا “الجديد” من تغييرات جذرية في المفاهيم، في طليعتها مفاهيم مثل التنمية والأمن والتقدم، وتقديم نماذج جديدة أكثر تواضعاً واستدامة، ومختلفة عن توجهات السوق المفتوحة (الخاسرة أوروبياً)، وإعادة إحياء فكرة الخضر الأوروبيين في السبعينات: “فكر عالمياً واعمل محلياً”، كمخرج لحل الأزمات على أنواعها وقضايا المناخ والاقتصاد معاً. وبما أن مؤتمر بون (ألمانيا) المناخي (cop23) الذي يعقد بداية الشهر القادم، بات قريباً، هناك فرصة جديدة لإعادة ترميم وتطوير وتثوير اتفاقية باريس المناخية وتقديم نماذج من الالتزامات “الوطنية”، أو على الأقل “المحلية”، نماذج مقتصدة وموفرة في الإنتاج والاستهلاك، ومتصالحة أكثر مع الطبيعة والآخر… كما لو أنها ستطبق في كل أنحاء العالم.