ما يزال المزراعون في لبنان بلا سقف يحميهم، فهم منذ أمد بعيد يعانون ويواجهون أزمات متلاحقة، فالدولة لم تولِ تاريخيا القطاعات الإنتاجية اهتماما يوازي أهميتها كرافد اقتصادي يؤمن استقرارا ماليا واجتماعيا، وهذا ما يفسر في حدود كبيرة ظاهرة النزوح من الريف إلى المدن، وتشكُّل أحزمة البؤس حولها، ولما تزل معاناة المزارع ماثلة مع كل موسم.
ونجد منذ نحو عشر سنوات أكثر أن المئات من المزارعين والمواطنين يعتمدون زراعة النباتات البرية العطرية والطبية والغذائية، في ظاهرة آخذة في التوسع، تحت عنوان البحث عن زراعات بديلة لتأمين مردود يقيهم العوز والمضاربة وانعدام فرص التصدير.
الزعفران “الذهب الأحمر”
وهذا الواقع يكاد يطاول كافة المناطق اللبنانية، ويتجلى على نحو كبيرة في البقاعين الشمالي والأوسط، حيث لم يدخر المزارعون جهدا لإيجاد زراعات بديلة عن زراعة “الحشيش” في ظل غياب خطة رسمية ترفع عنهم المعاناة، وتؤمن لهم مصدر رزق ثابتا، خصوصا وأن القطاع الزراعي ليس إنتاجا فحسب، وإنما يوفر فرص عمل وتشغيل اليد العاملة، إلا أن حجم الكوارث المتلاحقة وعدم تطبيق مشروع الزراعات البديلة بشكل علمي، دفع المزارعين إلى التشبث أكثر بأرضهم ومواصلة حياتهم وتأمين لقمة عيش كريمة لعائلاتهم، فخاضوا تجارب عدة الى أن وجدت زراعة الزعفران طريقها اليهم كواحدة من الزراعات البديلة، ويحدوهم أمل في أن يتخطوا الفقر والإهمال الرسمي وفساد الادارة.
في القاع في البقاع الشمالي تفاجئك أزهار الزعفران المنتشرة بكثافة في حقول مشاريع البلدة، فترتسم في مخيلتك للوهلة الأولى أن هؤلاء الناس سيحصدون الزعفران “الذهب الأحمر”، ويستبدلونه بمال يبعد عنهم الضائقة الإقتصادية، لعيشوا بكرامة ويسر نظرا لإرتفاع سعر الزعفران عالميا.
ولا يغيب عن بالنا أن الزعفران موجود في لبنان، لكن لم يسلط عليه الضوء كمورد زراعي، ولم تحظ هذه النبتة العاسلة بدراسات أكاديمية توثيقية بالرغم من جدواها الإقتصادية الكبيرة.
أغلى المطيبات على الإطلاق
انتشرت قبل أيام خلت عبر “فيسبوك” صور الزعفران اللبناني، مع تعريف جاء فيه: “قد لا يصدق البعض أن الزعفران في لبنان من أهم أصناف الزعفران في العالم، لا بل يتخطى بجودته الزعفران الإسباني والإيراني بشهادة خبراء ومهندسين فرنسيين وإسبان، ولكن تبقى مشكلة تصريفه بسبب سيطرة دول كبرى على تجارته وارتفاع سعره، إذ يعتبر الزعفران من أغلى المطيبات على الإطلاق، وهو يستعمل أيضا في صناعة العطور والأدوية وفوائده التي لا تحصى في معالجة العديد من الأمراض”.
كان الخبر لافتا للانتباه، بحيث جذب التعليقات وخصوصا المستهجنة لوجود الزعفران في لبنان، وقيام أهالي القاع والبقاع الشمالي بزراعته، وكان لنا حديث مع المواطن يوسف وهبي، فقال لـ greenarea.info أنه تعرف الى هذه الزراعة في العام 2000 “عندما استقدم البعض بذار الزعفران من إسبانيا، وتم توزيعها في ثمانين بلدة لبنانية، وأجريت التجارب عليها ضمن مشروع الزراعات البديلة عن زراعة (الحشيش) “ولم نكن نعلم شيئا عن كيفية زراعتها”.
وأضاف: “حصلت من جارنا على عدد من البصيلات فاعتنيت بها بعدما اقتنعت بالمشروع، وقمت بزراعتها في أمتار معدودة في حقلنا، وعاما بعد عام راحت تتسع المساحة المزروعة بالزعفران، وتعاونا كعائلة على هذه الزراعة لاقتناعنا بالمشروع وجدواه الإقتصادية علما أن آخر ما تم اكتشافه، هو أن الزعفران بالإضافة الى قيمته الغذائية، فإنه يساهم في قتل الخلايا السرطانية، وهو مفيد في العلاجات والتركيبات الطبية، وقد تبين مؤخرا أن النحل الذي يرعى في الزعفران كونه من الأزهار العاسلة ينقل (غبار الطلع) الذي له كثير من المنافع، وهو أغلى سعراً من الزعفران نفسه”.
نجح المشروع ولكن!
وقال وهبي: “نجح المشروع رغم كلفته العالية وحاجته ليد عاملة، وحصلنا على زعفران صنفه خبراء فرنسيون وإسبان بأنه يضاهي الأعلى جودة في العالم، ولكننا وقعنا في فخ تكدس الانتاج من سنة الى سنة نظرا لغياب الرعاية الرسمية لهذا القطاع الزراعي الناشىء، وجهل الناس بقدرتنا على انتاج زعفران محلي بسعر جيد وتطوير هذه الزراعة، خصوصا وأن قيمة وأهمية استمرارها تكمن في البصيلات، ولدينا ما يكفي لمئة دونم في السنة القادمة.
وختم: “في السنة الأولى لا يعطي الزعفران زهراً بشكل جيد، لكن في السنة التالية يعطي كل دونم من الأرض كيلوغراماً من الانتاج، وما ينقصنا في هذا المجال رعاية رسمية لهذا الانتاج وفتح أسواق لتصريفه وهذا ما نأمله ونسعى إليه، ولكن لم نجد إهتماما وتشجيعا، لا بل على العكس من ذلك قيل لنا من قبل مسؤولين أن هذه الزراعة لا نفع لها في لبنان”!