لم نكن نتوقع أن تتحول أجزاء عدة من منطقة صور مكبات للنفايات، تصدِّر الأمراض وتهدد حياة المواطنين من مدينة صور إلى قرى وبلدات صمدت في وجه الاحتلال الإسرائيلي وهزمها الاستهتار والفوضى وغياب الدولة، خصوصا وأن ما هو قائم مع انتشار المزابل والمكبات العشوائية هو “احتلال” أشد إيلاما، وأكثر خطرا من مواجهة عدو واضح، فحيال هذه الكارثة ثمة جبهات عدة، لكن ظروف المواجهة أقسى وأصعب.
ما يؤرق المواطنين أن صمودهم لم يلق اهتماما يؤمن لهم ما يستحقون من حياة كريمة، بعد أن غابت روائح أزهار الليمون وغطت روائح النفايات المتحللة فضاء المنطقة، فيما “جيوش” الذباب تحاصر القرى، ناهيك عن تلويث الهواء ومصادر المياه.
نعلم أن حل هذه المشكلة لا يمكن أن يتوفر من خلال وزارات الدولة المعنية، ونعلم أكثر أن المطلوب رفع الغطاء السياسي عن الملوِّثين، وهذا مدخل أساس لوقف الكارثة، خصوصا وأن حركة “أمل” و”حزب الله” يتحملان مسؤولية معنوية، تحتم عليهما الوقوف إلى جانب المواطنين المسلوبة إرادتهم بالترهيب، وهذا لسان حال من اكتووا بنار المكبات العشوائية، وهم ينتظرون مواقف واضحة وصريحة لوقف هذا العبث، والتوجه فورا نحو اعتماد مشاريع حلول تراعي البيئة وصحة المواطنين.
جبل من النفايات
لم يأت قرار إقفال “مكب رأس العين” في قضاء صور، دون جهود وتحركات امتدت سنوات، وشهدت اعتصامات وقطع طرقات، ومواقف مطالبة بإقفاله لما يسببه من أضرار بيئية ومن تهديد بتلويث برك رأس العين التي تروي أهالي صور والجوار، يومها، استجاب رئيس مجلس النواب نبيه بري للمطالب الشعبية وأمر بإقفال المكب، مع وعود بتأمين مطمر صحي بديل، إلاّ أنّ ذلك لم يتحقق وتحول المكب جبلا من النفايات، فيما أضحت أطراف القرى والبلدات مواقع لمكبات عشوائية نتيجة عدم إيجاد البديل.
ومع استمرار عجز “معمل عين بعال” عن استيعاب كمية النفايات التي تنتجها المنطقة، بالاضافة الى فشل عمليات الفرز والتخمير والمعالجة، ما تزال المشكلة قائمة ومرشحة للتفاقم، علما أن المعمل ما يزال قيد التوسيع لاستيعاب كمية أكبر من النفايات بتمويل من الاتحاد الأوروبي، وبالرغم من هذه الاجراءات الإضافية، إلا أنها لن تكفي أيضا لاستيعاب نفايات المنطقة.
بلدية صور
وتجدر الإشارة في هذا المجال، إلى أن بلدية مدينة صور (عاصمة القضاء)، جهدت بدورها لحل هذه الأزمة، وسعت، ضمن إمكانياتها المتاحة، لعدم إغراق المدينة بالنفايات، خصوصا وأنها خلال العام 2017 تصدرت المدن اللبنانية سياحيا، وبما أن الدولة عاجزة أمام مشكلة النفايات وتركت للبلديات مواجهة الأزمة، فلم تتوان بلدية صور في تجربة ودراسة مختلف الطرق والتي اعتبرتها حلولا مؤقتة.
وعلى صعيد صور أيضا، بقي اقتراح المحارق مفتوحا، بالرغم من رفض البلدية تشغيل المحرقة التي أحضرها أيمن جمعة صهر الرئيس بري الى المدينة، فبقيت في حديقة صور العامة، ولم يتم تشغيلها.
وعلم greenarea.info أن بلدية صور بحثت عن قطعة أرض لتحوّلها إلى مطمر ولم توفق في ذلك، وحيال الوضع المتردي قامت بنقل النفايات في فترة من الفترات إلى جزء من الحديقة العامة ما أثار سخط وغضب أهالي المدينة، بسبب الحرائق المفتعلة والمتكررة والروائح المنبعثة، ألى أن أقر خيار الترحيل عبر متعهد مكلف من البلدية لقاء حوالي 35 دولارا للطن الواحد، ولكن الى أين؟
جريمة بحق الوطن والانسان
وفي هذا السياق، قام أحد المتعهدين باستئجار قطعة أرض واقعة في النطاق العقاري لبلدة البرج الشمالي، إلا أنها جغرافيا هي أقرب ما تكون من البرج إلى بلدتي شارنيه وطيردبا، وقطعة الأرض هذه كانت حتى الأمس القريب أشبه ما تكون بـ “جنة” رائعة تتسنم إحدى التلال وسط مطلات تبدو من خلال بساتين الليمون المترامية الأطراف، وتم تحويلها إلى مكب لاستقبال وطمر النفايات، وكان قد صرح سابقا المهندس في “إتحاد بلديات صور” جلال عبد علي greenarea.info بأن “لا حل آخر أمام الإتحاد، وان المطمر يستقبل عوادم معمل عين بعال”.
فيما كان المتعهد قد أكد في إحدى المرات بأنه يحل أزمة البلديات بطمره عوادم المعمل، وأن ما استحدثه هو مطمر مؤقت، وسيتم إزالته، وحرص على ان لا تلويث ولا ضرر سيلحق بالمنطقة والجوار، ليتبين لنا لاحقا بأن كل ادعاءاته لا تمت إلى الحقيقة بصلة، وان الروائح المنبعثة كانت خير دليل على طمره للنفايات بدون أي عمليات فرز أو توضيب، وقد وثقنا ذلك بالصور والفيديو حتى أصبح الأمر على مرأى من الجميع وسط تخاذل وضعف البلديات ورضوخها للأمر الواقع.
لم يقم المتعهد، وكذلك الأمر بالنسبة البلديات، بأي اعتبار لخزان المياه الجوفية الذي يروي المنطقة والآبار والعيون القريبة، وأحدها أثري، ولا لبساتين الحمضيات والأراضي المزروعة التي لا يأكل منها سكان المنطقة فحسب بل توزع في أسواق لبنان كافة، وهذا ما أكده المختار حسن دهيني وكيل أحد البساتين المجاورة للمكب.
وقال دهيني لـ greenarea.info: “بادئ الأمر ساندتنا واستنكرت معنا بعض البلديات لتعود وترضخ للأمر الواقع، حتى أن عمليات التوسيع الجارية للمكب طاولت بستان موكلي، وكلفنا الأمر إجراء مسح جديد واستطعنا أن نوقف تمددهم”.
وأشار إلى أن “المسألة ليست تعد أو مضايقة فحسب، لا بل هي أخطر وأكبر كونها قضية بيئية بامتياز ولا تخص أهل منطقة معينة بل كل لبنان”، ورأى دهيني أن “ما يجري هو جريمة بحق الوطن والانسان، ويجب أن يتم وقفهم”، مؤكد على “ضرورة أن تعلم وزارة البيئة بما يجري”، مطالبا بـ “تحركها سريعا لمنع ارتكاب المزيد من الجرائم البيئية”.
كم أفواه الناس وتهديدهم
ولم ينته الأمر عند هذا الحد فحسب، أي مع تمرير وتغطية هذا المكب وحفر 15 متر في الأرض، وبدأ يعلو كجبل يمثل وصمة عار على جبين الجنوب، ما فتح “شهية” بعض البلديات لاستحداث مكبات متاخمة ومجاورة في نفس المنطقة لتتحول من منطقة جميلة تعبق برائحة الزعتر وزهر الليمون الى منطقة موبوءة بثلاث مكبات، تستقبل مجمل نفايات مدينة صور والبلدات، وتنفث سمومها في الارض والهواء وتلوث المياه الجوفية، حتى أن المواطنين بدأوا يعانون من “هجمات” الذباب، ما يشكل خطرا لجهة نقل الأمراض والأوبئة.
أما اتحاد البلديات فأزاح هماً عن كاهله، وانتقلت النفايات من الشوارع الى الأودية والأحراج وضفاف الينابيع والانهار وفوق مصادر مياه الينابيع الجوفية، ولسنا بصدد رمي المسؤولية كاملة على الاتحاد، فالدولة شريكة والمواطن أيضا، ولكن من يحق له إنشاء مكبات تسمى زورا مطامر؟ ومن يحق له تلويث الهواء والماء والتربة والتهاون بصحة المواطنين؟ومن يحق له كم أفواه الناس وتهديدهم بحياتهم ورزقهم من قبل تجار مافيات النفايات الناشئة؟ ومن يحق له التلاعب بكرامات الناس وحياتهم وصحة أبنائهم؟
ويبقى السؤال الأخير، هل سيتحرك رئيس مجلس النواب هذه المرة نصرة لمن كممت أفواههم حين تظاهروا وهُددوا بحياتهم وأعمالهم، نصرة لصحة اهل الجنوب، ليصدر قرارا آخر بإقفال هذه المكبات على غرار ما فعله في مكب رأس العين؟
أما الصور المرفقة فنضعها برسم أولي الأمر، ليكونوا على بينة من حجم الكارثة، وما تلحقه من ضرر، خصوصا وأن النفايات المتجمعة ستظل تنفث سمومها، والآتي أعظم، بعد يتحول كل مكب قنبلة موقوتة إن لم يتدارك المعنيون الأمر.