مشكلة الأنواع البحرية الغازية أكبر وأكثر تعقيدا مما يتصور كثيرون، ممن اعتبرها في وقت من الأوقات مجرد ظاهرة ناجمة عن ظروف وعوامل عدة، أي لا أثر سلبيا لها على النظم الإيكولوجية البحرية، وهذه نظرة تجافي العلم ولا تقارب الواقع في نتائج هذه الظاهرة التي قد تصل إلى مستوى كارثي، خصوصا وأن لهذا الغزو آثارا كبيرة وخطيرة على التنوع الحيوي للنظم البيئية.
والمشكلة أكبر وأبعد بكثير من البحر الأبيض المتوسط، وهي تؤرق العالم، ليس على مستوى البيئة البحرية فحسب، وإنما على مستوى سائر النظم البيئية في مختلف القارات والبلدان، لكن ما يهمنا في هذا المجال، تأثير هذا “الغزو” على بيئتنا المتوسطية، لنكون حاضرين في مواجهة هذا التحدي، وتحديد السبل الأنجع للتخفيف من المخاطر المحدقة، وتبني سياسات مرتكزة إلى تجارب دولية، ومستندة إلى آراء الخبراء في رصد وفهم أسباب هذه الظاهرة.
نعلم أن مواجهة الأنواع الغازية ليس بالأمر السهل، ولا يمكن تخطي تبعاته بالكامل، وثمة ضريبة سندفعها، لكن على الأقل، يمكن أن نحد من المخاطر، المهم ألا نقف مكتوفي الأيدي حيال هذا الأمر.
عوامل عدة
شهدنا في الآونة الأخيرة ووثقنا كثيرا دخول أنواع غريبة من الأسماك للبحر الأبيض المتوسط، واستيطانها فيه، وتكاثرها بشكل سريع ومخيف، وللوقوف على هذه الظاهرة، أسبابها، تبعاتها، وما إذا كانت غير منفصلة عن تغير المناخ والإحتباس الحراري، وغياب المفترس الطبيعي لها، كان لا بد من الاستناد الى خبرات أبحاث أهل الإختصاص لتكون ثمة إجابات علمية وافية ومحددة.
فمن وجهة نظر علمية أدى تدفق المياة قبل ملايين السنين من المحيط الأطلسي عبر مضيق جبل طارق الى ملء مسطح جاف بين قارتي آسيا وأفريقيا إلى تشكل البحر الأبيض المتوسط، هذا الحدث الجيولوجي يدل على أن معظم الكائنات الحية في المتوسط منشأها الأصلي هو الأطلسي.
صدمة قوية على التنوع الحيوي
أخصائي البيولوجيا البحرية والحيوانات الغازيه البروفسور ميشال باريش، قال لــ greenarea.info أنه “خلال المئة عام المنصرمة أدى تدخل الإنسان في البيئة الجغرافية عبر شقه لقناة السويس إلى إزالة أكبر العوائق لهجرة الأحياء من البحر الأحمر ومن المحيط الهندي والهادي، ما سمح بتدفق المزيد من الكائنات نحو البحر الأبيض المتوسط أو ما يعرف علميا بالــ Lessepsian migration، هذا الحدث شكل صدمة قوية على التنوع الحيوي في المتوسط”.
وأضاف: “بعد توسعة قناة السويس أصبح من السهل أكثر على الكائنات الحية عبورها نحو المتوسط لعدة اسباب، وهي وفرة المياه ووجود بيئة ملائمة لجهة الملوحة والحرارة، كما أن بناء سد أسوان على مجرى نهر النيل حيث المياه العذبة (وهي العائق الثاني) أدى الى وقف تدفق كمية المياه العذبة عند مدخل قناة السويس، وبالتالي ساعد بناء السد على وجود بيئة ملائمة تساعد الكائنات الحية على العبور نحو المتوسط لجهة الملوحة”.
وتابع: “إن العائق الثالث الذي كان يمنع دخول الكائنات تمثل بالبحيرات المالحة التي تكونت نتيجة دخول المياه على ما كان يشبه واديين كبيرين في منطقة القناة، وكانا يحتويان على ما تقدر سماكته بـ 13 مترا من الملح الجاف، وأزيل هذا العائق مع تدفق المياه في هذه المنطقة مما أدى الى تذويب الملح تدريجيا لتتساوى ملوحة هذه المنطقة بملوحة مياه قناة السويس.
وتابع باريش: “من المعروف إن دخول كائن جديد على سبيل المثال من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط يدخل في تنافس مع الكائنات الموجودة في هذا البحر، وتكون منافسته أكبر من منافسة الكائنات المتوسطية في ما بينها، وهذا التنافس قد يؤدي الى أن يحل مكان الكائن الغازي مكان كائن آخر، أو اجبار الكائن الآخر على الإنسحاب الى أماكن بعيدة، وأحيانا يؤدي هذا الغزو الى انقراض الكائن المقيم”.
أسباب مختلفة
ورأى أن “دخول الأسماك الغازية للبحار لا يعود لعبورها الممرات التي أنشأها الإنسان فحسب”، لافتا إلى أن “الانسان ليس بريئا ولا بعيدا عن أسباب الغزو بشكل عام”.
وقال: “بعض الأسماك تصل الى البحر عبر خزانات البواخر (البلصات)ballast water، فالبواخر خلال رحلاتها عبر المرافئ والمحيطات التي تجوبها عند كل مرة تقوم بإفراغ حمولتها من البضائع وبملء البلصات او الخزانات بمياه الميناء الذي أفرغت فيه بضاعتها وتتابع السفن رحلاتها، وعند وصولها الى ميناء آخر في محيط آخر تفرغ ما حملته من مياه وتحمل بضاعة جديدة، في هذه الحالات يحتمل نقلها لكائن حي من محيط الى محيط، غالبا ما ينفق هذا الكائن ولكن في بعض الحالات يتحول لنوع غاز”.
وأشار إلى أن “هناك سببا آخر أيضا لدخول الأسماك الى بحر ما، وهو عبر افلات اسماك الأكواريوم، فبعض الناس يقومون بتربية أسماك فيها، ولأسباب مختلفة يعمدون الى التخلص منها عبر رميها في البحر، دون مراعاة اذا ما كان هذا البحر هو بيئتها الأم، أم أنها ستكون نوعا دخيلا على الانواع التي تعيش فيه”.
ولفت باريش إلى أن “هذا التصرف يؤدي في بعض الأحيان إلى مشكلة كبيرة، فبعض الأسماك قد تحدث تخريبا كبيرا في غير بيئتها، خصوصا اذا استطاعت أن تتأقلم في بيئة جديدة وأن تتكاثر، وهذا ما حدث في أميركا بعد دخول سمكة الفراشة بعد إفلاتها من أكواريوم وغزو غرب المحيط الأطلسي بالكامل، وأدى ذلك إلى تكلفة الدولة مئات الملايين من الدولارات”، وقال: “أما بخصوص دخولها إلى البحر المتوسط فقد برهنت الدراسة التي أجريت في الجامعة الأميركية في بيروت بأن العينات التي وجدت في البحر اللبناني لم تفلت من أكواريوم بل جاءت من البحر الأحمر عبر قناة السويس”.
تحديد مصدر السمكة علميا
وقال البروفسور باريش: “بدايةً، من المهم أن نحصل على الأسماك الجديدة أو الغريبة، لإثبات وجودها وتوثيقها ووضعها في متحف مختص، ثم تؤخذ منها عينات لدراسات الجينات لتحديد الباركود (هوية السمكة) عن طريق الجينات، ويقارن “الباركود” مع بنك الجينات ومدخلات قاعدة البيانات BOLD، وتحليلها باستخدام مؤشرات التشابه الوراثية، من خلال هذه الدراسات والتحاليل والمقارنات نستطيع تحديد مصدرها بدقة”.
وأضاف: “يهمنا التعاون مع المجتمع المدني من صيادين وهواة، وأن يقوموا بإبلاغنا عن الأنواع الجديدة وحفظها اذا تطلب الأمر لإجراء دراسات عليها، ونحدد ما إذا كان يجب حفظها أم لا بعد التواصل معنا، ويهمنا أن يزودوننا بمشاهداتهم وبالعينات لنضع تفسيرات علمية للمشاهدات والظواهر التي يراها الناس ويسجلونها، ونذكر بأننا لهذا الهدف أنشأنا مواقع على وسائل التواصل الإجتماعي مثل موقع البحر اللبناني Sea Lebanon، وهو منصة لتبادل المعلومات والإجابة عن الاستفسارات التي تخص البحر اللبناني بشكل علمي يصب في مصلحة بيئتنا وسلامتها”.