لطالما تغنّى الشعراء بـ “لبنان الأخضر”، فوثّقوا مساحاته الخضراء كتابة وغناءاً، وقد يكون هذا التوثيق أهم ما قاموا به لمصلحة ترسيخ هذه الصورة في أذهان جيل اليوم الذي قد يكون لم ير في لبنان حتى الآن إلا الباطون والحجر!!
نعم، ففي ظل التمدد العمراني الرهيب، تم استباحة الأخضر واليابس لأغراض سكنية، تجارية واقتصادية، وخصوصاً في المدن التي اجتاحتها ناطحات السحاب ومواقف السيارات، مع كل ما يترتّب عنها من تلوّث وأضرار بيئية وصحية..
21 آذار من كل عام يحمل ذكرى قد تكون الأجمل بين الأعياد وهي ” عيد الأم” مع كل ما تحمله من عطاء دون حدود ، حنان دون كلل أو ملل وتضحية دون توقّع أي مقابل!!
الطبيعة بشكل عام كما الأشجار بشكل خاص، تتشابه إلى حدّ كبير بالأم الحقيقية، تعطي الحياة وتحمي من غدر التلوّث .. ربما ليست مصادفة أن يجتمع اليومان بتاريخ واحد!!
قد يحتفل العالم أجمع بعيد الأم، إنما القليل ممن يعطي الوقت للتنبّه للطبيعة الأم، للغابات والأشجار التي تضمحّل سنة بعد أخرى، اليوم وفي هذه الذكرى، فإن العنوان الدولي هو “الغابات والأشجار في المدن”.
واقع لبنان اليوم يترجم بشكل كبير أهميّة هذا العنوان، لأن غالبية المدن خسرت الغابات المحيطة بها بسبب التمدّد العمراني بشكل تدريجي، وخسّرت المواطنين آخر فسحات التنفّس النظيف، والراحة النفسية.
مدير برنامج الأراضي والموارد الطبيعية في معهد الدراسات البيئية في جامعة البلمند، الدكتور جورج متري، يشدّد في حديثه لـ Greenarea.me على أهمية زيادة المساحات الخضراء خصوصاً في المدن لما لها من فوائد جمالية، بيئية، صحية واجتماعية.
في السياق، يشدّد على أن القوانين القديمة التي ترعى هذا الشق تتطلّب التحديث، مع ضرورة منع قطع الأشجار مهما كانت الأسباب، فشق الطرقات ساهم في خسارة الغطاء الأخضر أو ما تبقّى منه بشكل كبير، خصوصاً وأنه حتى المساحات التي بقيت تحت إسم ” حديقة عامة” ليست في الحقيقة صحيّة.
يطالب متري البلديات أن تقوم بدورها في هذا المجال، خصوصاً في مجال إنشاء حدائق عامة تكون مرسومة في برامجها الإنتخابية دون أن تطبّق أي بند منها. وبينما تلحظ بعض المناطق وجود بعض الحدائق العامة، إلا أنه تأسّف لما وصلت إليه أوضاعها فأصبحت بعيدة كل البعد عن حقيقتها وأهميتها وباتت مقصداً لمدخني النرجيلة مانعة الأطفال من الخروج من منازلهم ليلعبوا في المتنفّس الوحيد السليم لهم.
منتقداً بناء القصور البلدية مقابل الإستهتار بزراعة أشجار آليتها غير مكلفة بتاتاً، يعدّد متري منافع الغابات في المدن، والعبرة تبقى في التنفيذ.
في الدرجة الأولى، يشير متري إلى أن الأشجار على جوانب الطرق تخفّف من الضجيج الصادر من أبواق السيارات والدراجات النارية ..فضلاً عن أنها تشكّل درعاً بين المناطق السكنية والطرقات العامة، ومتى وجدت قريبة من المناطق الصناعية، فهي تمتصّ الملوثات الصادرة عنها كما عن الشاحنات، والكميات الهائلة من السيارات.
مذكّراً بأن نسبة التلوّث في لبنان تخطّت النسبة المسموح فيها عالمياً، وإذ يعترف بتداخل المشكال ببعضها البعض، إلا أنه يشدّد على أهمية الأشجار في التخفيف من نسبة التلوّث ومن تداعيات تشابك تلك الأزمات على حياة الإنسان.
في استكماله لتعداد فوائد الأشجار في المدن، نلاحظ في الفترة الأخيرة أن الحرارة فوق معدلاتها الطبيعية، الأمر الذي يجب أن يشجّع المعنيين على زراعة الأشجارلأهميتها من التخفيف من حدة التغيّر المناخي، فهي تسحب ثاني أكسيد الكربون وتعطي الأوكسيجين، فتساهم في تعديل المناخ.
في مجال إستهلاك الطاقة، قد يساعد زيادة الأشجار في المدن من التخفيف من الإستهلاك، فيشير متري إلى أن المساحات الخضراء تخفّف استهلاك الطاقة في فصل الشتاء بنسبة 20 إلى 50 في المائة وتخفّ الحاجة لاستعمال وسائل التدفئة ، في حين أنها (الأشجار) في فصل الصيف ترطّب الهواء وتخفّف من حرارته لمستوى 8 درجات، الأمر الذي يساعد على تخفيف استهلاك الطاقة بنسبة 30 في المائة جراء استعمال المكيّفات الهوائية، الأمر الذي يأتي بمنافع إقتصادية أيضاً.
إضافة إلى ذلك فإن الِأشجار في المدن تلعب دوراً كبيراً في تنظيم المياه المتدفّقة وتخفّف من الفيضانات، التي بتنا نشهد منها كثيراً في الآونة الأخيرة، فضلاً عن أنها تساهم في تنقية المياه وتحسين نوعية وكمية المياه الجوفية.
في شق التنوّع البيولوجي، يتحدث متري عن أهمية الغابات والأشجار، التي تشكّل موائل لعدة أنواع من الحيوانات، في الحفاظ على هذا التنوّع والمساهمة في زيادته.
منافع الأشجار حول المدن لا تقتصر بجماليتها، بل إن المثمرة منها، والمحلية التي يمكن لكل بلدية زراعتها بكلفة غير عالية، قد يستفيد منها المواطن فيأكل من ثمرها كالخروب، الغار، الجوز، اللوز…
في الشق الإقتصادي أيضاً إفادة، فوجود الأشجار في المدن يساهم في جعل هذه المناطق مقصودة بشكل أكبر ومن عدد أكبر من الناس، الأمر الذي يحرّك من العجلة الإقتصادية في المنطقة، ويزيد من فرص العمل.
في النهاية، فإن الغابات بشكل عام تلعب دوراً إيجابياً فس الشق النفسي، بعد يوم طويل من العمل الضاغط، والتوتّر المستمر، فيمكن للأشجار في كل حسناتها أن تحسّن من مزاجه وتجعله أكثر إنتاجية!
ما المطلوب اليوم؟
في هذا الإطار، يشير متري إلى أن الأهم اليوم هو الحفاظ على الموجود، ومنع قطع الأشجار، وتحديث القوانين لتصبّ في مصلحة حماية الغابات والأشجار، وتطبيق بعضها الآخر، خصوصاً في ظل غياب الصيانة للأحراج الموجودة أو قوانين الحدائق العامة، وغياب الرقابة.
في المرحلة الثانية، يجب برأي متري زيادة المساحات الخضراء حيث يمكن ، حتى أنه يمكن الإستفادة من أسطح المنازل والمباني لزراعة الأشجار، وفي المناطق المكتظة، فإن شجرة واحدة قد تكون نافعة.
في مرحلة ثالثة ومهمة، لا يحصر متري دور المحافظة على المساحات الخضراء وزراعة الأشجار بالمعنيين من بلديات أو مسؤولين، بل يشدّد على أهمية التوعية بأن المسؤولية تقع على عاتق كل المواطنين لأن زراعة هذه الأشجار ستخدم جيل المستقبل، بدءاً من أولادنا وإلى ما لا نهاية.
في النهاية، وفي ظل زحمة الإنتخابات والمشاريع الإنتخابية، التي قد يضمّنها البعض اهتماماً خاصاً بالبيئة، فإن العبرة بحسب متري تبقى بالتنفيذ، لأن المطلوب بات من أساسيات الحياة وليس من كمالياتها!
رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري رعى في نهاية عام 2017 توقيع اتفاقية بين بلدية بيروت وشركة Green Cedar Lebanon تقضي بزرع 10452 شجرة في بيروت ضمن فترة عشر سنوات وقام الحريري بغرس أول شجرة في الباحة الشرقية للسراي الحكومي ضمن هذه الاتفاقية، فهل تنتشر العدوى وتكرّ السبحة؟