هوة كبيرة تفصل بين حراجة الوضعين الاقتصادي والمالي من جهة وبين نمط تصرف المسؤولين من جهة اخرى
وهذه الهوة تتجلى في :
– استمرار سياسة الإنفاق طوال الفترة السابقة دون اي تغيير، رغم تصاعد المزايدات حول ضرورة وقف الهدر والانفاق غير المجدي وغيره. وكذلك استمرار سياسة عدم احترام الآليات الرسمية في التلزيمات والمناقصات والاتفاقات.
– شبه الإصرار المعلن على عدم إحداث تغيير نوعي، لا في الأسماء او في الحقائب بالنسبة للحكومة العتيدة، والأهم عدم تغيير المقاربات الاقتصادية والمالية المستمرة منذ ربع قرن والتي اوصلت البلاد الى مشارف الافلاس، والدليل الأبرز لاستمرار هذا النهج تبنّي مؤتمر باريس 4 والتعاطي معه كأنه الخلاص المنتظر للبلد.
عاملان مفصليان يفترض ان يرسما مساراً مختلفاً عن السياق القائم:
اولاً: مبادرة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله فيما خَصّ القضية الاقتصادية – الاجتماعية، واستطراداً مكافحة الفساد، وإن كان البعض يفضّل اختصار المبادرة واقتصارها على الشق الأخير. وربما الأهم في المبادرة، ربط السيد نجاحها به هو شخصياً، مع ما يمتلكه من رصيد ومصداقية توفّر لها صدق النية والتوجّه والهدف.
ثانياً: إعلان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون منذ اليوم الاول لعهده أنّ حكومة ما بعد الانتخابات هي حكومة العهد الاولى ومعها سيبدأ الإصلاح، ورغم الجراح التي أصابت العهد خلال الفترة المنصرمة، إلّا أنّ الكثير من الناس تراهن وبقوة على انطلاق هذه الورشة الإصلاحية.
المخاوف كبيرة ومتعددة وخطيرة، لأنّ دقة الأوضاع وحساسيتها باتت في مرحلة متقدمة، وكذلك استخدام الوسائل العلاجية المؤقتة والمكلفة في آن واحد، مما يعني أنّ الخيار، ربما الوحيد المتاح، خارج الإجراءات والتدابير الجذرية، هو بيع أساسات الدولة اللبنانية وممتلكاتها، وهو ما يحمله مؤتمر باريس 4 تحت شعار الشراكة بين القطاع العام والخاص، علماً أن لا معايير موضوعة حتى الآن، في حين أنّ العملية بدأت فعلياً وبدأ تقسيم الحصص والقطاعات .
هذه المخاوف ناجمة ايضاً، من أشكال المسايرة بين القوى السياسية والمجاملات، كأنّ مصير البلد ومخاطر التعثّر المالي فيه هي قضية لياقات اجتماعية ومجاملات.
لا أحد يدعو الى حرب او ثورة لأنّ ظروف البلاد معروفة، ولكن من جرّب حظه كقوة سياسية او كشخص، يمكن ان يتيح المجال امام غيره من القوى او الشخصيات، لا سيما تلك التي لم تجرب بعد وتدعو اليوم الى رفع لواء الإصلاح.
كيف يمكن لحزب الله أن يترجم خطاب أمينه العام اذا لم يكن له رأي في المالية العامة للدولة؟! في الدين العام؟! في السياسة الاقتصادية والانتاجية والنقدية؟! وعن أي فساد او مكافحته اذا لبس الكفوف وراء الكفوف؟! وهو ما ظهر بين خطاب الأمين العام للحزب الاول حيث طرح برنامجاً تغييرياً ونقاط محددة، وثم في خطابه الثاني الذي تحدث عن المساحات المشتركة بين القوى لا سيما بموضوع مكافحة الفساد؟!
الرأي في هذه المسائل لا يمكن ترجمته إلّا بارتباطه بإمكانية التنفيذ والتأثير ورسم السياسات، وهو ما لا يبدو أنّه يحتلّ اولوية اليوم، وهذا أمر لا يتعلق بالتعفف او الترفع، حتى ولو كان هذا هو المنطلق، بل يتعلق بالمسؤولية والمصداقية وإنقاذ الوطن.
أمّا بالنسبة لوعد رئيس الجمهورية، فإنّ اختيار الوزراء في الحكومة المستقيلة لم يكن على مستوى الآمال والوعود وبالتاكيد الإصلاح المنتظر، وما يتسرب أحياناً عن توزير بعض رجال المال والأعمال المقترحين – في حال صح الامر- يدعو الى الترقب والرهبة، ولا يرسل إشارات الاطمئنان لمسار الإصلاح، خاصة أنّ بعضهم هم الأنشط على صعيد المقاربة الاقتصادية المعتمدة منذ عقود والمستمرة، وهي نفسها التي حاربها ووعد بتغييرها العماد ميشال عون.
البلاد امام مفترق طرق، والانتخابات على أهميتها واهمية ما أفرزت من تحولات كبيرة سياسياً ووطنياً، إلّا انها عكست تدنّي في الثقة، وحرداً جماهيرياً غير مسبوق، مما يضع الجميع امام مسؤولية مختلفة ونوعية، وربما هذا ما جعل حزب الله يغيّر موقفه من الانخراط في العملية الاقتصادية والاجتماعية والمالية بعد أن كان منكفئاً عنها طوال سنوات.
المخاطر كبيرة والآمال المعقودة أكبر، بينما الهوامش تضيق والضغوطات الخارجية والداخلية تزداد.
المسايرة والمرونة الزائدة قد تهدر فرصة ثمينة لإعادة وضع البلد على سكة الخلاص الاقتصادي والمالي، وإعادته بلداً قابلاً للحياة ولعيش ابنائه فيه، لا محطة او فندق او استراحة..