يواجه الحوض الأعلى لنهر الليطاني مخاطر غير منفصلة عن عوامل وأسباب عدة، لعل أبرزها استنزاف الموارد المائية بعيدا من مفهوم الاستدامة، فضلا عن ممارسات تهدد الثروة المائية كالمقالع والمرامل وغيرها من التعديات التي غالبا ما تسوغ تحت ستار رخص وهمية، دون إغفال التراجع المستمر في معدل المتساقطات، بحيث أننا ما عدنا نواجه موسما من الشحائح يُعوض في الموسم التالي، وهذا يعني أن هذه المشكلة بمداها المتوصل سنة بعد سنة، غير منفصلة عن تغير المناخ وظاهرة الاحترار العالمي.
كل ذلك، يؤكد حجم التحديات الملقاة راهنا وفي المستقبل على “المصلحة الوطنية لنهر الليطاني”، وتبقى المشكلة الأكبر متمثلة في أن “المصلحة لا يمكنها من السيطرة على الملوِث ولا رفع التلوث عن نهر الليطاني، ففي العام 2016 صدر القانون رقم 63 تاريخ 27/10/2016 المتعلق بتخصيص اعتمادات لتنفيذ بعض المشاريع في منطقة حوض نهر الليطاني بهدف رفع التلوث عن نهر الليطاني، ونص على اعتبار “المصلحة الوطنية لنهر الليطاني” هي الجهة المسؤولة عن تنفيذ مهمة الحوكمة والتنسيق والمتابعة مع الجهات المعنية برفع التلوث.
ولا بد من الإشارة إلى أن مبادئ حوكمة المياه الحديثة، تتمثل في السهر على حسن تطبيق القوانين المائية، الشفافية والعدالة والمساءلة في إدارة المياه، التشاور وإشراك مستخدمي المياه في إتخاذ القرارات لرفع الإنتاجية وتحسين الأداء، الحفاظ على الديمومة الإقتصادية والمالية لمؤسسات المياه عبر إسترداد تكلفة التشغيل والصيانة، فضلا عن العمل على التطوير عبر الأبحاث وبناء القدرات البشرية للعاملين في قطاع المياه.
كل ذلك يتطلب دعما ومواكبة وتنسيقا بين “المصلحة” وسائر الجهات والوزارات المعنية، عبر توفير فضاء من التعاون يلحظ كل هذه التحديات، فإذا كان تغير المناخ عاملا لا يمكن التحكم به، وأقصى ما نستطيعه حياله هو التكيف، فإن ثمة عوامل أخرى يمكن مواجهتها عبر الأطر القانونية ليبقى الليطاني نهرا وحوضا في منأى عن التعدي والاستباحة.
تدارك الكارثة
أثارت “المصلحة الوطنية لنهر الليطاني” بتاريخ 3 تموز (يوليو) 2018 موضوع هبوط معدل كميات المياه الوافدة الى بحيرة القرعون، مما يهدد إستدامة العمل في مشاريع الري والطاقة العائدة لـ “المصلحة” وينذر بأزمة بيئية ومعيشية، بسبب استمرار الضغط على الموارد المائية المتوفرة حالياً في الحوض الأعلى لنهر الليطاني.
وفي هذا السياق، اقترحت “المصلحة” مجموعة من الخطوات لتدارك هذه الكارثة، بعد أن بينت الأسباب وخطوات المعالجة.
وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى أن وزارة الطاقة والمياه استجابت بعد إبلاغها حول الخطوات المقترحة من المصلحة الى المؤسسات المعنية، ولذلك يبقى الأمر متعلقا بمدى استجابة تلك المؤسسات ومواكبة الوزارة وتحرك لجنة الاشغال النيابية لتحقيق تنفيذ تلك الخطوات.
إنخفاض كبير
وفي التفاصيل، تعاني بحيرة القرعون من هبوط حاد في مستوى منسوب المياه المخزنة فيها، ووفق معطيات الرصد المائي الذي تقوم به المصلحة منذ عام 1966، تبين الأرقام وجود إنخفاض كبير في كمية المياه الوافدة الى البحيرة، مما يرتب إنعكاسات خطيرة تهدد مباشرة إستدامة العمل في مشاريع الري وإنتاج الطاقة الحالية والمستقبلية التابعة للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني.
فقد هبط معدل كمية المياه الوافدة الى بحيرة القرعون من 450 مليون متر مكعب (م.م.م) عند بناء سد القرعون في اواسط الستينيات الى 250 (م.م.م) في السنوات العشرين الأخيرة، علما أن السد بني بمواصفات فنية مبنية على كمية مياه وافدة بمعدل 500 م.م.م مما يهدد فعالية العمل بكامل المنشآت المائية الحالية.
الاستنزاف الجائر
وبحسب ما أشار مدير عام ورئيس مجلس إدارة “المصلحة الوطنية لنهر الليطاني” الدكتور سامي علوية لـ greenarea.info، فإن “الانخفاض في تدفق المياه السطحية في مجاري الحوض الأعلى لنهر الليطاني سببه:
– الإستنزاف الجائر للمياه الجوفية عبر الضخ غير المنظم من الآبار الإرتوازية. وتشير الأرقام الى تدني منسوب المياه الجوفية في منطقة الحوض الأعلى لنهر الليطاني بنسبة 30 الى 40 متر بالمقارنة مع فترة السبعبنيات.
– الضخ العشوائي من مجاري نهر الليطاني وتحويل الينابيع من قبل مؤسسات المياه الى شبكات مياه الشرب.
– الشح المتراكم في المتساقطات والتغير المناخي”.
تضرر المزارعين
ولناحية الضرر، قال علوية: “إن الإنخفاض الحالي في تدفق المياه السطحية ومنسوب بحيرة القرعون يسبب:
1-على المدرى القريب:
– تضرر المزارعين مستخدمي المياه في المناطق الدنيا للنهر.
– طغيان الطلب على العرض وخلل في الميزان المائي.
– إرتفاع في نسبة الملوثات بسبب قلة التمييع (dilution).
2-على المدى الطويل:
– خسائر إقتصادية وهبوط مستوى معيشة السكان المحليين.
– وقف تنقيذ المشاريع الملحوظة على نهر الليطاني وتعثر تشغيل مشاريع الري الكبرى والطاقة خصوصا مشروع القناة 800 الذي يتغذى من بحيرة القرعون بمعدل 90 م.م.م سنوياً بالإضافة الى 20 م.م.م سنوياً مخصصة لمياة الشفة.
– أضرار بيئية ناجمة عن إرتفاع نسب الملوثات وجفاف المجاري المائية”.
تحرك سريع وفعال
وبحسب علوية “تتطلب المعالجة خطوات سريعة وحازمة لتدارك الكارثة المعيشية والبيئية في حال استمرار الضغط على الموارد المائية المتوفرة حالياً في الحوض الأعلى لنهر الليطاني، لجهة:
– وقف إعطاء تراخيص لحفر آبار إرتوازية جديدة وتنظيم العمل للآبار المرخصة عبر وضع عدادات وخلق نظام معلومات Database للتحكم بالكميات التي يتم ضخها من الطبقة الجوفية وإقفال الآبار الغير مرخصة.
– إزالة التعديات على مجري نهر الليطاني وروافده ومنع إعاقة جريان النهر عبر إقامة السدود في المجرى.
– تنظيم إستجرار المياه السطحية مع إحترام حقوق الري للأراضي المحازية للنهر.
– تطبيق متطلبات الحوكمة المائية على حوض نهر الليطاني خصوصا لجهة إشراك المجتمع المدني في حماية الموارد المائية”.
ورأى علوية أن “المشاكل المائية والبيئية التي يعاني منها حوض نهر الليطاني تتطلب تحركا سريعا، منسّقا وفعّالا لوقف التدهور الحاصل”، ولفت إلى أن “التحديات الجديدة تحتاج إلى أساليب جديدة مبتكرة، كإعادة توزيع وحصر المهمات، واللامركزية، والإدارة السياسية القوية والعادلة وتطبيق الديموقراطية الإدارية من خلال المشاركة والحوار وتوافق الآراء، بالإضافة الى تحسين وبناء القدرات الفنية والمالية، وبإختصار تطبيق الحوكمة المائية”.
تفعيل الرقابة
وأشار إلى أن “المطلوب وضع حد لأذونات وتصاريح البناء وحفر الآبار والمهل الإدارية وغيرها من الأذونات غير الدستورية”، وقال: “المطلوب أيضا وضع حد لقرارات المهل للمصانع من قبل وزارة الصناعة، ووضع حد لأذونات استثمار المقالع من قبل وزارة الداخلية، وتفعيل الرقابة الإستباقية والعلاجية على مصادر التلوّث كافة، وانفاذ القوانين والأنظمة البيئية المرعية بشكل عام، وكذلك وضع حد لحالات الالتفاف على النصوص من خلال استغلال التسميات لاستثمارات مغايرة للواقع (مثل استصلاح أو فرز أراض، نقل ستوك، مستودعات، مستودعات مواد بناء، مغاسل رمول، مجابل باطون، شقّ طرقات، رخص بناء، إنشاء واستثمار برك جبلية وبرك صخرية”.
وختم مؤكدا على ضرورة “تأهيل المواقع المشوّهة مثل مواقع محافر الرمل والمقالع والمكبّات العشوائية بموازاة الملاحقة القضائية لمرتكبي هذا التشويه”.