انشغل المجتمع اللبناني خلال الأيام القليلة الماضية بمسألة تلوث شبكة مياه الشرب في حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت. وضجت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والإلكترونية وما تبقى من الصحافة المطبوعة بهذه المشكلة الخطيرة جدا على الصحة العامة.
لن أعيد مسلسل التعاطي الرسمي وغير الرسمي مع هذا الحدث، بل سأتوقف عند السياسات المطلوبة لمعالجة أسباب المشكلة، ولحماية مياه الشرب من احتمالات التلوث في كل المراحل، بدءا من المحافظة على مصادرها، أي الينابيع والمياه السطحية والمياه الجوفية من كل أنواع التلوث، ودور السلطات المسؤولة، من وزارات وإدارات ومؤسسات بلدية وأهلية. مرورا بمحطات معالجة مياه الشرب، أو ما يتفق على تسميتها محطات تكرير وتطهير مياه الشرب. وصولا إلى شبكات نقل مياه الشرب إلى المواطنين في بيوتهم ومؤسساتهم.
أولا، على مستوى المحافظة على مصادر مياه الشرب، نحن في لبنان نعاني من ضعف كبير في حماية الينابيع والمياه السطحية من أنهار وجداول، ومصادر المياه الجوفية في كل مناطق لبنان، بما فيها أعالي الجبال. فحماية هذه الموارد تتطلب التزاما صارما بتطبيق ما هو موجود ونافذ من قوانين ومراسيم وتشريعات وقواعد تنظم حمايتها من كل أسباب واحتمالات التلوث، وتطوير هذه التشريعات وتحديثها باستمرار، وتدقيق أليات تنفيذها، ومراقبة ورصد وتقييم تطبيقها بشكل دوري ومنتظم . في المقدمة من هذه الأسباب تأتي التدفقات السائلة للمياه المبتذلة من سوء إدارة الصرف الصحي وسوء إدارة التدفقات السائلة الصناعية. ويأتي في المرتبة الثانية لأسباب هذا التلوث، سوء إدارة النفايات الصلبة من كل المصادر، بما فيها بعض أنواع النفايات الخطرة.
إذن، مياهنا في مصادرها المتعددة هي عرضة لكل أسباب التلوث. على مدى عقود من تلكؤ مؤسسات الدولة وإداراتها ووزاراتها المعنية، بل وكل حكوماتها وبرلماناتها المتعاقبة، عن القيام بالحد الأدنى من واجباتها وصلاحياتها بحماية مصادر المياه من التلوث بكل أنواعه وأشكاله.
من أهم نماذج الممارسات التي تهدد سلامة مصادر المياه، على سبيل المثال لا الحصر، انتشار الحفر والآبار ذات القعر المفقود في كثير من المجمعات السكنية في العديد من مناطق لبنان الجبلية والساحلية، مما يهدد بتلويث مباشر وغير مباشر للمياه الجوفية والينابيع. وكذلك، مشاريع الصرف الصحي الناقصة، أي التي تكتفي بمد شبكات للمجارير في القرى والبلدات والمدن، دون ربط مخارجها بمحطات فعالة وكفؤة وذات قدرات كافية لمعالجة المياه المبتذلة، إلى درجة تصبح معها آمنة لاستعمالها في الري، أو للتخلص منها في مجاري المياه السطحية.
ماذا نتج عن هذا الواقع؟
أمران هامان، الأمر الأول، إن تلوث مصادر المياه، ومستوى التلوث الذي وصلت إليه، جعلا من المياه الطبيعية غير آمنة للشرب في كل مناطق لبنان دون استثناء، بعدما كانت صالحة للشرب قبل عدة عقود من الآن، إن لم يكن في كل تلك المصادر، ففي معظمها وأكبرها وأهمها كانت صالحة للشرب، وكان الناس ينهلون منها مباشرة حاجاتهم للمياه لاستعمالاتهم البشرية بما فيها مياه الشفة للشرب. والأمر الثاني، إن تلوث هذه المصادر أوجب إخضاعها لعمليات تكرير ومعالجة وتطهير وتعقيم في محطات عاملة في عدد من المناطق اللبنانية، مما يترافق بتكلفة كبيرة تضاف إلى كلفة نقل وتوزيع مياه الاستعمال البشري والشرب، لتجعلها عالية الثمن على المواطن اللبناني، في ظل سوء إدارة وعدم عدالة في إستيفاء هذه الكلفات من مختلف المواطنين اللبنانيين، نظرا للتمنع المديد لسلطات المياه في لبنان، عن وضع عدادات تؤمن حدا مقبولا من العدالة، على مدى ثلاثة عقود حتى الآن.
ثانيا، على مستوى معالجة وتطهير وتعقيم المياه في المحطات العاملة في لبنان. على الرغم من كل الملايين التي صرفت منذ مطلع التسعينات حتى اليوم على تأهيل وتوسعة محطات تنقية مياه الشرب ومحطات الضخ والتعقيم في مختلف مناطق لبنان، وتقدر بمئات ملايين الدولارات، لا تزال هناك مناطق عديدة من لبنان غير مجهزة بمحطات تقوم بهذه الوظيفة. وبالتالي تؤمن هذه المناطق حاجاتها من المياه من آبار أرتوازية منقولة مباشرة إلى خزانات رئيسية، توزع على سكان البلدات والقرى. وفي معظم هذه الحالات، تكون مياه الآبار المنقولة إلى بيوت المواطنين غير آمنة، لأنها لا تخضع قبل توزيعها لأي عملية تكرير وتطهير وتعقيم، وهي في هذه الحالة تكون غير صالحة للشرب، وفي أحيان كثيرة لا تتوافق مع مواصفات المياه الصالحة للإستعمال البشري. إن عدد هذه المحطات غير كاف ليغطي كل المناطق الآهلة بالسكان في لبنان، وهناك عمل كبير مطلوب تحقيقه في هذا المجال، لتوفير المياه الآمنة والمتوافقة مع مواصفات المياه الصالحة للشرب إلى بيوت كل اللبنانيين. هذا حق لهم، وليس حلما ينبغي أن تحمله الأجيال دون أي التفات إلى تحقيقه.
إن العمل في محطات التنقية وتعقيم المياه الموجودة (مع التأكيد على عدم كفاية عددها) يتم بشكل مرضٍ، لناحية عمليات المعالجة والتصفية في أحواض تصفية رملية، متبوعة بتطهير بواسطة الكلور، بحيث تخرج المياه من هذه المحطات صالحة للشرب، ولكنها تنقل في أنابيب للنقل وشبكات توزيع تعاني من كثير من المشاكل، سنأتي على مناقشتها.
ثالثا، على مستوى شبكات النقل والتوزيع، وهنا المخاطرة الكبرى على تلويث مياه الشرب، المنقولة من محطات التنقية بمواصفات مقبولة صالحة للشرب، ولكنها تصل إلى خزانات وحنفيات المواطنين في بيوتهم ملوثة، وخصوصا بملوثات مميزة لمياه الصرف الصحي، نظرا لتداخل شبكات المجارير وشبكات نقل وتوزيع مياه الشرب، بآليات وطرق متعددة. يعود ذلك لعدة أسباب، نذكر منها أهمها، دون الحصر.
بداية، من المعروف، وباعتراف جميع المسؤولين في كل وزارات ومؤسسات الدولة المعنية بالمياه، أن الهدر في شبكات مياه الشرب يصل إلى حوالي 40 بالمئة. هنا، لن نناقش المسألة من الناحية الكمية، وإن كنا نعتقد أن هذا الجانب على قدر كبير من الأهمية، لناحية الاستهتار بندرة وقيمة الموارد المائية، وإن لناحية الآثار الاقتصادية والاجتماعية والصحية لهذا الهدر الكبير، ولكن في سياق مقالنا، سوف نتوقف عند أثر هذا الهدر على احتمالات تعرض مياه الشرب إلى التلوث.
إن معظم هذا الهدر ناتج عن أعطال وخراب وتسربات في شبكة نقل وتوزيع مياه الشرب، ولا سيما في المدن والبلدات والقرى. هذه الأعطال، هي ليست مصدرا لخسارة وهدر الماء النقية المكررة والمعقمة، أي التي صرفت عليها أموال عامة لتصبح كذلك، فحسب، بل هي أيضا، مصدر لتسرب كل أنواع الملوثات إلى شبكة نقل مياه الشرب، وبالتالي وصول المياه ملوثة إلى خزانات وحنفيات المواطنين المشتركين.
كيف يتم ذلك؟
إن سوء التنسيق بين مختلف إدارات “دولة” مجلس الإنماء والإعمار، المسؤول الوحيد في لبنان عن تنفيذ كل المشاريع، وطبعا مشاريع المياه، بما فيها الصرف الصحي، يؤدي في الواقع إلى تشابك وتداخل بين هاتين الشبكتين، بطريقة لا تراعي في غالب الأحيان الحد الأدنى من الإحتراز، أو اتخاذ إجراءات تفادي التقاطع المباشر، أو اتخاذ إجراءات وقائية تحول دون، أو تخفف من احتمال تسرب مياه الصرف الصحي إلى شبكة نقل وتوزيع مياه الشرب.
غالبا، ما نرى، أن الريغارات الرئيسية، لشبكات مجارير الصرف الصحي، وكذلك الريغارات الفرعية لربط البيوت بشبكة المجاري، تقع مباشرة أو على مقربة كبيرة من مآخذ مياه الشرب للمشتركين، ومن وصلات شبكة توزيع مياه الشرب. حالتان تحصلان بالتأكيد على مستوى شبكتي المجارير ومياه الشرب في معظم الأحياء والشوارع والأزقة في المدن والبلدان والقرى. الحالة الأولى تتمثل بطوفان بعض الريغارات لأي سبب من الأسباب، وسيل المياه المبتذلة في الشوارع لأيام، وهذا مشهد مألوف عند اللبنانيين في معظم أماكن سكنهم. والحالة الثانية، هي توقف سيل مياه الشرب للمشتركين من وقت إلى آخر، نظرا للتقنين في توزيع المياه للبنانيين. عند التقاء هاتين الحالتين في المكان والزمان، يحصل تلوث مياه الشرب بمياه الصرف الصحي. مع توقف المياه في شبكة مياه الشرب ينخفض الضغط داخل القساطل، فتتم عملية شفط من الخارج إلى الداخل عند الوصلات ومواقع الأعطال والتسريب، وعندما يكون المحيط الخارجي مخضبا بمياه المجاري التي طافت في المكان، يتم دخولها إلى قساطل شبكة مياه الشرب، وعند تشغيل ضخ مياه الشرب إلى المشتركين من جديد تحمل معها مياها ملوثة كانت قبل وصولها إليهم صالحة للشرب.
هذه واحدة من أكثر الآليات شيوعا في لبنان، في المدن والأحياء والبلدات والقرى.
هناك أيضا آليات أخرى، خصوصا في بيروت ومنطقة الساحل الممتد من جونية إلى الجية، حيث أن أي تسرب للمياه المبتذلة، لأي سبب من الأسباب، إن لوقوع عطل في المجاري، أو لفيض في الريغارات، أو لإفراغ حمولة صهاريج تنقل مياه مبتذلة، أو لتلوث حاصل على مستوى أعلى في الجبل لمجرى جوفي هابط نحو البحر، كل هذه الاسباب تؤدي إلى تلويث مباشر وغير مباشر للآبار الأرتوازية المفتوحة على امتداد هذا الساحل. وكلنا نعرف أن عدد هذه الآبار كبير، وبعضها غير خاضع لأي رقابة أو رصد، لا كمي ولا نوعي لمياهه.
هناك آلية أخرى محتملة لتلوث الأبار الأرتوازية في هذه المنطقة الساحلية، وتحصل غالبا من أواسط الصيف حتى بداية الشتاء، أي خلال الفترة، التي يلاحظ اللبنانيون في هذه المنطقة، ملوحة واضحة في مياه الآبار التي تغذي بيوتهم.
ماذا يعني هذا، أن تصبح مياه البئر مالحة؟
هذا يعني أن مستوى المياه في المجرى أو الحوض الجوفي هبطت كثيرا نتيجة استنزاف الضخ دون حساب، وبسبب الشح أيضا في آخر الصيف، مما أدى إلى انخفاض في الضغط داخل المجرى أو الحوض الجوفي، فتتم عندها عملية شفط مياه البحر إلى داخله. مياه البحر هذه، لا تحمل فقط ملح البحر، بل تحمل أيضا تلوثه الكبير بمياه الصرف الصحي، حيث أصبح عدد مصبات المياه المبتذلة غير المعالجة على الشاطيء اللبناني يزيد عن 220 مصبا، تلقي ملايين الأمتار المكعبة من المياه المبتذلة الملوثة في البحر على مرمى أمتار من الشاطيء، أو على مسافات قريبة ترميها مضخات محطتي الغدير وصيدا.
وهكذا تصل مياه البئر إلى بيوتنا مالحة وملوثة ولا عجب في ذلك.
إن الطريقة التي تعاملت معها الجهات المسؤولة في لبنان، حيال حادثة تلوث مياه الشرب في حارة حريك، مثيرة للحزن، والقلق والقرف في نفس الوقت.
فبدل البحث عن سبل معالجة الأسباب، التي تؤدي إلى تكرار مخيف لمثل هذه الحالات في كل مناطق لبنان، راحت تفتش عن تبريرات لتبريء ساحة هذه المؤسسة أو تلك، وترفع المسؤولية من هذا إلى ذاك فإلى ذلك المجهول، غير القابل على المساءلة أو المحاسبة، أو على الأقل غير الجاهز للولوج في سياسات تخرج لبنان من هذا الإنهيار البيئي والصحي المتدحرج إليه بسرعة مرعبة.
ليس بالكذب وحده تدار البلدان!