لم يتخط نهر الليطاني إلى الآن جراحه، ولم تشهد حالة الطوارئ المزعومة منذ سنوات دخوله غرفة العمليات بعد، وفعليا ما زال النهر الى يومنا يئن من تلوث، ويعاني من مفاعيل نزفه المستمر وسط خطط واستمهالات للملوثين إلى حين صرف الاعتمادات السنوية التي تعود لكل فئة في الخطة التي وضعت لسبع سنوات، مضىت منها اثنتان ولم نر أية نتائج، والواضح في موضوع المعالجة، وتحديدا في ما يخص معالجة الصرف الصحي للبلديات اعتماد مشاريع عرضت لها جهات حكومية، مكلفة في إنشائها وتشغيلها وصيانتها، وقد عانى ويعاني الى يومنا هذا لبنان بأكمله منها، علما ان ملايين الدولارات قد أهدرت على إنشائها لتتوقف في ما بعد لأسباب عدة، بالرغم من هناك دراسات متخصصة في مجال معالجة تدفقات الصرف الصحي الى الأنهار بالطرق التي تراعي البيئة من خلال الأحواض المزروعة بالنباتات (الأراضي الرطبة المصطنعة)، القادرة طبيعياً على إزالة الملوثات من مياه المجاري والمعتمدة في معظم الدول المتقدمة وهي صالحة للتطبيق في لبنان.
في هذا المجال، ثمة تجارب ناجحة، وإن كانت لدينا الامكانية لتنفيذ مثل هذه المشاريع فما الغاية من “تجريب المجرب” وإنشاء محطات مكلفة وغير مجدية؟ فضلا عما تحتاجه من إنشاء شبكات ضخمة مترابطة من قرى عدة وتوصيلها إلى محطة مركزية واحدة، التي بدورها تتسبب بآثار بيئية وصحية وتكاليف عالية لجهة التنفيذ والتشغيل، خصوصاً بسبب التوزيع الجغرافي للقرى والمسافات بينها.
هدر المال العام
في هذا المجال، رأت “المصلحة الوطنية لنهر الليطاني” عبر الإخبار الذي تقدمت به إلى النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم، والمكون من 191 صفحة أن واقع تنفيذ القانون 63 تحول من واقع صحي لإنقاذ النهر ورفع التلوث الى واقع مغاير يوازي هدر المال العام، نتيجة استمرار وثبات التعديات على النهر بمياهه ومجراه، فضلا عن أن التعديات بقيت، ما هدد ويهدد صحة الناس، وما أدى أيضا الى انتشار الأوبئة في منطقة حوض الليطاني الأعلى وازدياد الأمراض السرطانية هناك، وفقا لما تثبته أرقام وزارة الصحة والدراسات العلمية المنشورة.
وقد بات واقعاً ان الاعتمادات المرصودة في القانون 63 والتي سترهق الخزينة بمبلغ 1100 مليار ليرة، قد تهدر وتجهض الجهود المبذولة نتيجة استمرار التعديات البيئية من قبل بعض البلديات والمؤسسات الصناعية والمؤسسات المصنفة، التي لم تجد لتصريف ملوثاتها الا نهر الليطاني ومشاريع المصلحة وصحة المواطنين ما عطل ويعطل وسيعطل محطات التكرير التي نفذت أو يجري تنفيذها أو سيجري تنفيذها.
وكانت المصلحة قد شددت على ان البلديات ملزمة بمعاينة كل مصبات الصرف الصحي في نطاقها والصادرة عن نطاقها البلدي ومنع صب المجارير بالنهر مباشرة بتحويل
مجرى الصرف الصحي الى أماكن يتم زرعها بالقصب والنباتات أو ما يشابهها (wetlands artificial) قبل أن تصب في النهر بانتظار الانتهاء من إنشاء محطات التكرير، وذلك بالتنسيق مع المصلحة الوطنية لنهر الليطاني.
التفتيش المركزي
ثم عاد وتقدم رئيس مجلس إدارة المدير العام للمصلحة أمس الدكتور سامي علوية بكتب الى عدد من الوزارات والإدارات والمؤسسات العامة، أودعها بموجبه المسح الشامل الذي أجرته المصلحة الوطنية لنهر الليطاني لواقع التعديات والتلوث في نهر الليطاني، وواقع الصرف الصحي للبلدات الواقعة في الحوض الأعلى لنهر الليطاني.
وقد طلب من وزارة الصحة العامة، مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية (LARI)، مجلس الوطني للبحوث العلمية، إيداع المصلحة الوطنية لنهر الليطاني تشمل قاعدة بيانات عن التلوث ومفاعيله، وتشمل معلومات عن النهر وروافده والمياه الجوفية والسطحية في حوض الليطاني ونتائج الفحوصات المخبرية والإحصائيات التي عملت وتعمل عليها هذه الجهات.
فيما تقدم علوية من رئيس التفتيش المركزي القاضي جورج عطية بكتاب طلب فيه، تكليف كافة جهات التفتيش باتخاذ الإجراءات اللازمة وفتح تحقيق حول قيام البلديات بتحويل الصرف الصحي لشبكاتها الى مجرى نهر الليطاني وروافده، وتكليف التفتيش المالي بإجراء تفتيش حول أوجه إنفاق البلديات التي تتذرع بعدم توفر الإمكانيات لديها بإيجاد حلول لصرفها الصحي سوى نهر الليطاني، لا سيما مع تحويل عائدات الصندوق البلدي المستقل لها.
حلول بديلة
وبالنسبة إلى الحلول البديلة للمحافظة على المال العام ووقف الهدر، كانت قد لفتت المصلحة، إلى بعض الحلول ومنها، تقنية تحطيم المواد العضوية، عبر محطات مزروعة بالنباتات، واستوقفتنا في هذا المجال، تجربة نفذت في بلدة رمحالا في قضاء عاليه، وبينت هذه التجربة أن وجود النباتات (وأجداها القصب) ضمن أحواض الأراضي الرطبة تشكل عبر جذورها وسوقها وأوراقها، مكانا ملائما لنمو الكائنات الدقيقة التي تقوم بتحطيم المواد العضوية الموجودة ضمن مياه الصرف الصحي. كما أن تجمّع هذه الكائنات الدقيقة المتنوعة يطلق عليه اسم بيريفايتون Periphyton، ودور البيريفايتون والعمليات الفيزيائية والبيولوجية والكيميائية الطبيعية يقود إلى التخلص من 90 بالمئة تقريبا من الملوثات، بينما تقوم النباتات نفسها بإزالة بين 7 و10 بالمئة من الملوثات. فضلا عن أن النباتات تقوم بدور المصدّر الكربوني للميكروبات عندما تحلل هذه النباتات بعد موتها. إضافة إلى أن النباتات المائية تكون قادرة على استنفاد المعادن الثقيلة وإن كان ذلك بمعدلات مختلفة حسب نوع النبات.
سركيس
وعن المشروع وآلية عمله، أشار المهندس المنفذ لمحطة رمحالا راشد سركيس لـ greenarea.info إلى أن “هذه التقنية هي الحل الطبيعي والأوفر، والمشروع لايحتاج إلى كلفة تشغيل”، ولفت إلى أن “مشروعا آخر نفذ بنجاح في منطقة بقعتوتا في أعالي كسروان، والجدير بالذكر في هذا المشروع أنه نظرا لتوفر كميات مياه مناسبة استطعنا أن نأخذ عينات ونجري عليها فحوصات مخبرية، الأمر الذي لم نتمكن منه في رمحالا بسبب قلة المياه، وقد
جاءت النتائج مشجعة وأصبح لدينا بيانات وأرقام علمية نستند إليها كتجربة ناجحة وبالأرقام”.
وأضاف سركيس: “أما عن بلديات الليطاني، وبعد أن استدعى المدعي العام إبراهيم رؤساء بلديات، وسمعنا بأنهم في صدد زراعة القصب، ويهمني أن أشير إلى أن محطات القصب تحتاج إلى تقنيات ودراسات وأصول ينفذها مهندس مختص، درءا للأخطار التي يمكن أن تنجم عن سوء التنفيذ، ما قد يعرض المياه الجوفية للتلوث، وأهم ما تتطلبه هذه التقنية توفر المساحات، نظرا إلى أن القصب يعالج الصرف الصحي بفاعلية ولكن ببطء، وإذا انحسرت المساحة وأصبح التكرير سريعا، ينجم عن ذلك مشكلة تراكم الوحول”.
وقال: “نعتمد في مثل هذه المشاريع حفرة تركيد كبيرة لتأمين دخول المياه إلى الموقع بشكل سائل تماما، حيث تعبر مياه الصرف الصحي عبر الحقل المزروع بالقصب، وتخرج من الجهة الأخرى خالية من أي رائحة أو عناصر ملوثة، وتصب في بركة تجميع تساعد البلدية على استخدام المياه المعالجة حسب الحاجة. أما دور القصب فيأتي بعد أن تعبر المياه بين الحصى البيضاء الذي تحتضنه، ليمد بعدها الأول جذوره الكثيفة، مشكلا مساحة حركة أساسية للبكتيريا، التي تأكل كل الرواسب والجزئيات غير المتفككة الناتجة عن مرور المياه، بعد تعرضها للأكسدة بفعل النمط الخاص بالقصب، القادر على ضخ الأوكسيجين بفضل جذوره الطويلة، وبهذه الطريقة تنتهي مفاعيل المواد المؤذية والرائحة المنبعثة منها، وتخرج المياه من الجهة المقابلة ذات لون صافٍ، يميل بعض الشيء إلى لون معين من دون رائحة أو أي مفاعيل ضارة تذكر”.
وختم سركيس: “هذه التقنية تعتبر صديقة للبيئة، وقد اتبعتها دول أوروبية بعد الحرب العالمية الثانية ومستمرة إلى يومنا هذا، وبعد أن أثبتت نجاعتها واستدامتها، بعيدا من أي كلفة إضافية في التشغيل والصيانة، وما قد توفره من ملايين الدولارات من المال العام، فليس ثمة ما
يحول دون تعميمها من قبل البلديات، أما المصانع فعليها حل أمورها بنفسها عبر تقنيات كثيرة موجودة تخولهم إعادة استعمال المياه بدل رميها مع الطحل والسموم في الأنهار”.