مع المدير العام الجديد، نفضت “المصلحة الوطنية لنهر الليطاني” الغبار عن جسدها أولا، لتنطلق في انتفاضة مباركة لرفع التعديات على النهر والبحيرة وحوضيه الأعلى والأسفل، وعلى أملاكها في كل اتجاه.
قبل السير في البحث، عالي الجدية، عن مصادر التلويث الظاهرة والمستترة والمموَّهة والخفية من كل نوع، وتشخيص دقيق للتعديات، خاضت غمار التمحيص في كل القوانين والتشريعات ذات الصلة، لتعيد استخلاص صلاحياتها المهدورة ردحا طويلا من الزمن، على يد القريبين والبعيدين في سلطة جائرة، سياساتها وممارساتها، وإدارة ظهرها للواجبات على مدى عقود متتالية، أدت إلى هذا الدمارالرهيب في المنظومة البيئية للنهر والبحيرة، وصولا إلى خروج تام للثروة المائية التي يمثلانها، النهر والبحيرة، من دائرة أي استخدام على الإطلاق، حتى بتنا أمام واقع خراب “لا قلوب” أو يكاد. وغدونا على حالة فظيعة من التلوث ضربت بآثارها الأمان الصحي لسكان منطقة الحوض وعموم اللبنانيين، كانت من نتائجه أن احتل لبنان المراتب الأولى بالتعرض للأمراض السرطانية وغيرها من الأمراض الخطيرة بين دول المنطقة.
بعد ثلاث سنوات على إقرار قانون معالجة التلوث في نهر الليطاني وحوضه، البالغة كلفته حوالي المليار دولار. وبعد ثلاث سنوات على تشكيل اللجنة الوزارية لنهر الليطاني برئاسة رئيس الحكومة. وبعد سنوات من الضجيج الإعلامي والصراخ من كل حدب وصوب، على مستوى الوزارات والمؤسسات الحكومية المعنية، أم على مستوى القطاع الخاص والأهلي والإعلام المرئي والمسموع والمقروء، التقليدي والإلكتروني. وبعد الحملات المنظمة، التي تشنها “المصلحة الوطنية لنهر الليطاني” في عمل دؤوب ومستمر ومتفاني، ليل نهار، للكشف عن كل مصادر تلويث النهر من كل صنف ونوع، الظاهرة منها والمستترة بقصد التمويه والإخفاء، ولتحديد مدى التعديات على حرم النهر وأملاك المصلحة والإطار الجغرافي الداخل ضمن صلاحياتها ومسؤولياتها. وبعد الذهاب بعيدا في تحديد أصحاب المؤسسات الملوِّثة والبلديات المسؤولة عن تدفقات ملوِّثة، وعن أطراف وأفراد تعدوا على منشآت المصلحة، وصولا إلى البناء عليها وتشييد الإنشاءات على أراضي المشاريع، التي تملكها وتديرها. وبعد أشهر من وضع كل النقاط على كل الحروف، وتسطير الرسائل والكتب والمذكرات إلى كل الوزارات، التي تحملت تاريخيا مسؤولية التقصير عن القيام بواجباتها حيال النهر وحوضه، وتحريك المحافظين والبلديات، ووضعهم أمام مسؤولياتهم، ورفع الدعاوى القضائية ضد كل المعتدين والملوِّثين والمنتهكين لحرمة النهر ومنشآت المصلحة، وتحريك النيابات العامة البيئية في المناطق المعنية، وتحريك النيابة العامة المالية، وكل من يعنيهم الأمر باسترداد سيادة القانون ورفع الإنتهاكات على النهر وروافده وحوضه.
وبعد أشهر من العمل الجاد والمضني لمدير عام “المصلحة الوطنية لنهر الليطاني” وفريقه الكفؤ والمتفاني. وبعد تعبئة كل من تعز عليه قضية نهر الليطاني وبحيرة القرعون، التي تحولت فعلا إلى قضية وطنية بامتياز، وانخراط الإعلام ومنظمات المجتمع المدني، والعديد من البلديات وممثلي الرأي العام، الذين أيدوا ودعموا وتضامنوا مع كل ما قامت به المصلحة من انتفاضة مباركة في كل الإتجاهات.
بعد كل ذلك، يحق لنا وللجميع أن نسأل كيف تعاملت الوزارات المعنية مباشرة بهذه الكارثة الوطنية، ولا سيما وزارة البيئة ووزارة الصناعة، ووزارة الطاقة والمياه ومجلس الإنماء والإعمار، والحكومة ورئيسها، رئيس اللجنة الوزارية لنهر الليطاني؟
نترك للرأي العام أن يحكم، على ضوء ما يتابعه على وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الإجتماعي، من مواقف ومراسلات وكتب وتصريحات ومواقف تصدر عن بعض هذه الجهات، تبرر للملوِّثين، و”تطيل لهم الرسن” عبر المماطلة وإعطائهم المزيد والمزيد من مهل لتسوية أوضاعهم دون أي رادع جدي. كيف إذا عرفنا أن إعطاء المهل للمصانع الملوثة بدأ منذ العام 2001 ويستمر حتى الآن على يد الوزراء المتعاقبين على هذه الوزارات، والمسؤولين عن المؤسسات الحكومية المعنية مباشرة.
وأخيرا، وبعد جهد مضنٍ وعملٍ دؤوب ومنظم، وضع كل المسؤولين في كل الوزارات والمؤسسات الحكومية والقضاء أمام ضرورة البدء بالتحرك واتخاذ الإجراءات الرادعة ضد الملوِّثين، الذين تمادوا في غيِّهم وتجاهلهم، متكئين على تغطية من هنا وتمديد للمهل من هناك، بدأت تعطي انتفاضة “المصلحة الوطنية لنهر الليطاني” نتائجها، وظهر أول الغيث مع قرارات وزارة الصناعة بحق بعض المصانع، التي ثبت تلويثها الكبير لنهر الليطاني وروافده وحوضه، ومع قرارا ت النيابة العامة المالية الحازمة في إقفال المؤسسات الصناعية الملوِّثة بالشمع الأحمر.
نحن نأمل أن لا تكون هذه الإجراءات ردة فعل ينتهي مفعولها بسرعة، بل نريدها بداية اتخاذ قرارات حازمة ضد كل من يستهين ببيئة لبنان وصحة شعبه، وكل من يسمح لنفسه بالتعدي على الحق العام، الذي تمثله الأنهار وروافدها وأحواضها، وفي مقدمتها نهر الليطاني، وبيئة لبنان وموارده الطبيعية.
قلناها سابقا ونعيد التأكيد عليها، إن المؤسسات الصناعية، التي لا تكترث لمعالجة نفاياتها السائلة والصلبة، التي تسبب تلويثا خطيرا ثابتا بعيد المدى لنهر الليطاني وروافده وحوضه، ولكل أوساط البيئة بشكل عام، وأن المؤسسات الصناعية الملوِّثة، التي تعجز عن معالجة تدفقاتها ونفاياتها إلى مستويات تتوافق مع المعايير والمواصفات الوطنية والعالمية، لهي مؤسسات لا تستحق أن تستمر في نشاطها الصناعي، حيث أن الأرباح التي تحققها، هي أرباح تتحقق على حساب تخريب البيئة وتهديد الصحة العامة والمصلحة العامة عموما بأكبر المخاطر، وهذا غير مقبول به وفق كل المقاييس القانونية والأخلاقية والشرعية.
كل الدعم لإجراءات “المصلحة الوطنية لنهر الليطاني”، وكل التأييد لجميع المبادرين لرفع الصوت دعما لها، وتعزيزا لإجراءات قمعها لكل أنواع المخالفات الواقعة على النهر وروافده وحوضه وعلى أملاك إنشاءات المصلحة ومشاريعها. وكل التأييد والدعم أيضا للأنشطة، التي ينظمها العديد من ممثلي المجتمع المدني والأهلي والناشطين دفاعا عن النهر والبيئة عموما. نعم لأن تمارس كل الوزارات والمؤسسات الحكومية المعنية والمسؤولة لصلاحياتها والقيام بمسؤولياتها في رفع التعديات من كل صنف ونوع عن نهر الليطاني وروافده وحوضه، وعن كل أنهار لبنان وبحره وهوائه وكل أوساطه البيئية، حماية لثروتنا الطبيعية ولصحة شعبنا وأجيالنا.
هل يحق لنا بعد ثلاث سنوات على قانون معالجة التلوث في نهر الليطاني، ذي الموازنة التي تقارب المليار دولار، أن نسأل كل من يعنيه الأمر، ماذا فعلتم حتى الآن؟ وما هي إنجازاتكم في تخفيف عبء التدفقات الملوِّثة إلى النهر وروافده وحوضه؟ من مصادر الصرف الصحي، والصرف الصناعي؟ هل يجرؤ أحد منكم أن يقدم إلى الرأي العام تقريرا عن ما قمتم به خلال هذه السنوات الثلاثة، يتضمن تقريرا ماليا مفصلا عن المصروفات ووجهة صرفها؟
هل يبادر أحد منكم ليشرح لنا كيف يتعامل وسيتعامل مع إنجازات “المصلحة الوطنية لنهر الليطاني”، التي قامت بها حتى الآن؟ هل يمد لها يد العون؟ أم أنه يضع العصي في دواليبها؟
نحن وكل المعنيين بتلوث نهر الليطاني وبحيرة القرعون، وكل اللبنانيين والرأي العام، بانتظار تقاريركم…التي نعتقد أنها لن تأتي أبدا.