يعج لبنان بأخبار الإصابات بالسرطان في كل المناطق. وتحوَّل هذا المرض إلى المسبب الأول للوفيات في كل لبنان. يتحدث الجميع عن أن معدلات الإصابة بالأمراض السرطانية في لبنان هي الأعلى بالمقارنة مع كل بلدان المنطقة. ويلاحظ كثيرون ازديادا كبيرا لهذه المعدلات في العشر سنوات الأخيرة.
عندما كنا نتحدث منذ أكثر من عقدين من الزمن أن السياسات المعتمدة في لبنان حيال قضايا البيئة المختلفة، ولا سيما مسائل مكافحة أسباب التلوث في الهواء الجوي، وفي البحر، وفي المياه السطحية والأنهار، ورفعنا الصوت للتنبه إلى مخاطر تلويث المياه الجوفية، وتلويث التربة الزراعية، وبالتالي تسرب الملوثات إلى المنتجات الزراعية النباتية والحيوانية ودخولها إلى السلسلة الغذائية للإنسان، عندها كنا نرفق هذا الحديث بالتحذير الشديد من الآثار بعيدة المدى لهذا التلوث على الصحة العامة، وعلى الأمان الصحي لعموم السكان، وازدياد معدلات التعرض للأمراض المزمنة، ومنها طبعا مختلف أنواع الأمراض السرطانية.
وها نحن اليوم نحصد ما زرعناه من تلويث خطير طوال العقود الماضية، نتيجة السياسات، التي اعتمدت من قبل الحكومات المتعاقبة حيال الإمتناع عن تبني خيارات الإدارة السليمة بيئيا للنفايات، والإمتناع عن التصدي لمسائل الحد من التلوث الصناعي والزراعي، ووضع مناهج متكاملة وسليمة لإدارة النفايات الخطرة، المتولدة من مختلف الأنشطة، وكذلك بالنسبة لكل أنواع النفايات الطبية الخطرة. وكذلك العمل الجدي للحد من الإنبعاثات في الجو من مختلف المصادر، من مصادر المؤسسات الصناعية، ولا سيما الكبرى منها، ومن معامل إنتاج الطاقة، وقطاع النقل، ووسائل التدفئة، وانتشار مولدات الكهرباء في كل المدن والقرى والبلدات والأحياء، حتى غطت المساحة المسكونة لكل لبنان.
يضاف إلى كل ذلك، انتشار المكبات العشوائية، التي تحتوي نفايات مختلفة المصادر والنوعية والتركيب، المشتعلة بانتظام، تبث سمومها الثقيلة في الهواء الجوي في المناطق الريفية والجبلية، والساحلية والداخلية، التي كانت حتى أمس قريب تتغنى بهوائها العليل والنظيف. هذه المكبات العشوائية، التي غطت في السنوات الأخيرة كل جغرافية لبنان، وتجاوز عددها 1350 مكبا، تشكل عن حق مصدرا خطيرا لتلويث البيئة، يترافق بتأثيرات خطيرة على الصحة العامة مباشرة وبعيدة المدى.
نقول هذا، اليوم، لنعيد التحذير الشديد، والتأكيد على ضرورة وضع حد نهائي لهذا الإستهتار الغريب في سياسات الدولة، حكومات وبرلمانات، حيال حماية البيئة من التدهور والتلوث، واتخاذ كل الإجراءات، التي من شأنها أن تخفف الإنبعاثات شديدة السمية إلى الحد الأدنى الممكن، التي تشكل خطرا حقيقيا على الأمان الصحي لعموم القاطنين في لبنان.
اعتماد الإدارة المتكاملة والسليمة بيئيا لكل أنواع النفايات، عبر سياسات تخفيف تولدها، وفرزها وتدويرها ومعالجتها وتحويلها وتصنيعها، وليس الذهاب إلى نشر المحارق، التي تبث سمومها عالية الخطورة على الصحة العامة في كل مناطق لبنان. وكذلك اتخاذ كل الإجراءات، التي من شأنها أيضا أن تخفض الإطلاقات السامة عالية التلوث في التربة والبحر والمياه السطحية.
إن التأكيد، الذي لا نزال نكرره في كل مناسبة، عن أن هناك ملوثات تنتمي إلى مركبات كيميائية، غازية وأبخرة، وجزيئات صلبة صغيرة جدا ومتناهية الصغر، تتولد من مصادر مختلفة، صناعية وغير صناعية، هي تصنف علميا ودون أدنى شك، في لائحة المواد المسببة للسرطان عند الإنسان.
هناك العديد من المراجع العلمية والمراكز المتخصصة بدراسة الأمراض السرطانية ومسبباتها، بعضها تابع لمنظمة الصحة العالمية، وبعضها تابع لمنظمة السرطان الأميركية، ومنها الوكالة العالمية لأبحاث السرطان IARC، والبرنامج الوطني لعلم السموم الأميركي NTP، وغيرها تابع لوكالة الحماية البيئية الأميركية، إضافة إلى العديد من مراكز الأبحاث العلمية والجامعات في مختلف بلدان العالم. كلها تعمل على تصنيف المركبات والمواد الكيميائية والفيروسات والأجسام المجهرية، التي تسبب السرطان.
يتسبب السرطان بنتيجة تغيرات في خلايا الحمض النووي للخلية، الذي يحمل كل المعلومات الوراثية. بعض هذه التغيرات تكون موروثة من الأهل والأسلاف، وبعضها الآخر يتسبب بالتعرض لعوامل خارجية، تسمى عادة بالعوامل البيئية. هذه العوامل هي متنوعة، بعضها يرتبط بنوعية الحياة من غذاء وتدخين ونشاط جسدي. وبعضها ينتمي إلى عوامل طبيعية مثل الأشعة ما فوق البنفسجية الموجودة في الأشعة الشمسية، وغاز الرادون والعوامل المسببة للعدوى من فيروسات وجراثيم. وبعضها ينتمي إلى التعرض لعوامل طبية وأدوية مثل استهلاك بعض الأدوية والتعرض للأشعة والمعالجة الكيميائية، والأدوية الهرمونية، والأدوية التي تثبط نظام المناعة. وبعضها ينتج عن تعرض مهني لمواد كيميائية معينة أثناء العمل. وبعضها التعرض لعوامل في المنزل. وأهم كل تلك العوامل أصبحت مؤخرا عوامل التلوث، التي تطاول كل أوساط البيئة، الهواء والمياه والغذاء والبحر، والتربة.
إن بعض المواد، التي تسبب السرطان لا تثير تغيرات مباشرة في خلايا الحمض النووي، بل تسبب هذه التغيرات عبر تسريع كبير في انقسام الخلايا. إن المواد المسببة للسرطان لا تؤدي إلى ذلك في كل الحالات وفي كل الأوقات وعند جميع الناس بالتساوي. إن هذه المواد تُظهر نشاطها المسرطن في ظروف مختلفة للتعرض والجرعة وطول مدة التعرض. وكذلك، إن الأفراد يستجيبون للتعرض للمواد المسرطنة بشكل متفاوت تحت تأثير عوامل مختلفة لطريقة تعرضهم، وطريق دخول المواد إلى الجسم، عبر الجهاز التنفسي أم عبر الجلد أو الفم، وطول مدة التعرض، وقوة وغزارة التعرض، بالإضافة إلى البنية الوراثية للجسم.
تصنف المواد المسرطنة إلى فئات، وذلك على ضوء قوتها وتأكيد تأثيرها المسرطن على الإنسان ومراتب هذا الإحتمال. يعرف اليوم حوالي 900 مادة كيميائية وعامل مسبب للسرطان. منها ما بين 100 – 250 مادة كيميائية وعامل مثبت بشكل أكيد تسببه للسرطان عند الإنسان. هذه الفئات هي التالية:
- المجموعة 1: مواد مسرطنة عند الإنسان
- المجموعة 2 أ: مواد يحتمل أن تكون مسرطنة عند الإنسان
- المجموعة 2 ب: مواد يمكن أن تكون مسرطنة عند الإنسان
- المجموعة 3: مواد غير قابلة للتصنيف كمواد مسرطنة عند الإنسان
- المجموعة 4: مواد يحتمل أنها غير مسرطنة عند الإنسان
أما البرنامج الوطني لعلم السموم الأميركي فيصنف المواد إلى فئتين:
- مواد معروفة بنشاطها المسرطن عند الإنسان
- مواد يشتبه بنشاطها المسرطن عند الإنسان
طبعا لن نتمكن في إطار هذه المقالة أن نذكر كل المواد، التي تنتمي إلى المواد المعروفة بنشاطها المسرطن الأكيد عند الإنسان، بل سنكتفي بذكر بعضها، التي يعرفها الناس عموما:
- أستيآلديهايد Acetaldehyde
- الزرنيخ ومركباته غير العضوية Arsenic
- البنزين
- البنزيدين
- البنزوبيرين (ملوث للهواء الجوي ناتج عن حرق الوقود الأحفوري والمشتقات النفطية، وعن محارق النفايات)
- الكادميوم ومركباته Cadmium
- الكروم ومركباته (سداسي التكافؤ) Chromium VI
- الفحم الحجري (الغازات الناتجة عن حرقه)
- الغازات المنبعثة من عوادم السيارات العاملة على الديزل (المازوت)
- الإستروجين، الذي يعطى للنساء بعد انقطاع الدورة، وكذلك الذي يدخل في تركيب حبوب منع الحمل
- إيثانول Ethanol
- فورمآلدهايد Formaldehyde
- فيروس الهيباتيتيس ب Hepatitis B virus
- فيروس الهيباتيتيس ج Hepatitis C virus
- كل أنواع الإشعاعات المؤينة
- الحديد والفولاذ في معامل الصلب
- إيزو بروبيلول Isopropyl alcohol
- غبار الجلد
- ليندان Lindane (مبيد زراعي كلوري)
- الزيوت المعدنية
- النيكل ومركباته Nickel
- تلوث الهواء الجوي بالغبار (الجزيئات الصلبة الصغيرة جدا ومتناهية الصغر)
- الدهانات الزيتية
- زيوت المحولات الكهربائية، التي تحتوي على متعدد الكلور ثنائي الفنيل PCB
- الفوسفور 32 (فوسفات)
- الديوكسينات والفورانات Dioxins & Furans
- المطاط في صناعة المطاط
- الزيوت الصخرية
- غبار السيليكا والكوارتز
- التعرض لأشعة الشمس
- التدخين وضمنا تدخين النارجيلة
- التعرض للأشعة ما فوق البنفسجية UV radiation
- الفينيل كورايد Vinyl Chloride
- غبار الخشب
- التعرض لأشعة إكس وغاما X & Gama radiation
- آفلاتوكسين Aflatoxin
- الآسبيستوس (الآميانت) أو الحرير الصخري
هذه اللائحة غير كاملة من المواد المثبت تأثيرها المسرطن عند الإنسان، وغيرها الكثير الكثير من المركبات والمواد، التي تلوِّث بيئتنا، الهواء الذي نتنشقه، والمياه التي نشربها، ونروي بها مزروعاتنا، وبحرنا وأنهارنا، وتربتنا، وربما مياهنا الجوفية، وسلسلتنا الغذائية. نتعرض لها منفردة ومجتمعة، أو في غالب الأحيان نتعرض لباقة من عدد من هذه المركبات والمواد دفعة واحدة، في نفس الوقت. تدخل جسمنا عبر جهازنا التنفسي، أو عبر الجلد، أو عبر الفم، أو عبر كل هذه الطرق مجتمعة.
وهناك أيضا مئات وربما ألوف أخرى من المركبات والمواد المشتبه بتأثيرها المسرطن والمحتمل والممكن، تلوِّث أوساط بيئتنا ومحيط حياتنا اليومية، مع سياسات إدارة الظهر لمكافحة التلوث في كل الملفات والمجالات، إن في إدارة النفايات بكل أصنافها، أو في قطاع الصناعة والزراعة والنقل، أو في مجال المواد الغذائية، التي تطبع سياسات دولتنا، حكومات وبرلمانات متعاقبة على حكم البلد منذ عقود، حيث وصلنا إلى هذا المستوى الفظيع من المخاطر الصحية على شعبنا وأجياله الآتية.
عندما ندرك كل ذلك، يبطل العجب.
وعندما نعلم كل هذا علم اليقين، يكون قلقنا غير محدود على صحة شعبنا، اليوم وغدا، ولأجيال قادمة.