تتداخل السياسة كعلمٍ بالحسابِ والرياضيات، فهي مجموعة معطيات، معلومات وفرضيات، تحتاج الى حسابات دقيقة، لتأتي النتائج متناسبةً طرداً أو عكساً مع الأهداف، كما تعتمد على مقاييس وموازين لتقييم الأحداث والأوضاع في منطقة أو بلد ما، ويمقت الساسة الروس استخدام الأرقام الإفتراضية غير الدقيقة، التي لاتمر في تلك الموازين والمقاييس، للدلالة على مكاسب أو خسائر في قضية معينة، يبتعدون عن العبارات الفضفاضة والجُمل الضبابية، لشرح سياستهم في أيٍ من مناطقِ العالم الساخنة، ولاعودة عندهم عن قرارٍ (ليس كما يفعل الكراكوز الأميركي “ترامب”)، كما لايثير دهشتهم شيئاً، و لامكان في عملهم السياسي للإنفعالات المتسرعة والعواطف، ولاحتى للإستغراب، فكل شيء عندهم له سبب، وسراطهم القويم في السياسة هو: من يعرف التاريخ جيداً يتقن العمل السياسي جيداً.
تلك الموازين والمقاييس، لم يستخدمها بعض المحللين السياسين في سوريا، عندما كالوا الإتهامات ووصفوا الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بالخائن للشعب السوري، وتوسعوا في استنتاجاتهم وتأويلاتهم، وأعطوا، لعملية تسليم جثة الجندي الإسرائيلي “زاخاريا باومل”، أبعاداً تفوق حجمها الحقيقي بعيداً عن أي تحليل واقعي”، ذلك في حين أن أحداً من الساسة الروس غير الرئيس “بوتين” لم ينبث ببنت شفة، حول هذه القضية!!!
كالوا الإتهامات لزعيمٍ ضليعٍ في القانون الدولي، فريق عمله يعمل دون كللٍ او مللٍ لإنهاء الحرب في سوريا، دون الأخذ بالاعتبار أنَّ الجذر الأول والثاني والثالث وحتى المائة للعلاقات السوفيتية- السورية، يساوي عملياً الدعم الروسي المستمر، لسوريا حتى يومنا هذا، عسكرياً، دبلوماسياً واقتصادياً، ثم أنهم لم يأخذوا في حساباتهم أن إيران التي كانت ولاتزال تلعب ذات الدور وبذات الثقل الذي تلعبه روسيا على الخارطة السورية، ومعها رجال المقاومة “حزب الله”، الذين لم يسمحوا يوماً للروسي بالتحكم في تحركاتهم داخل الأراضي السورية، على إطلاعٍ مُستمرٍ ومباشر بخطط الروس وتحركاتهم في المنطقة.
قبل أنّ تكيلوا إتهاماتكم للرفاق والحلفاء والأصدقاء الروس، انظروا بعين العقل ، أنّه وبفرض أنَّ مُعطيات المعادلة السياسية اليوم في سوريا، تقول: دخلت روسيا ميدان الحرب السورية في عام 2015 ، وقبلها استخدمت الفيتو في مجلس الأمن عدة مرات، لتوقِف هجوماً أميركياً كان وشيكاً على دمشق، ومن ثم زودت الجيش السوري بمنظومة صواريخ “اس 300 “، وحالت دون توغل الجيش ال”إسرائيل”ي، أو حتى محاولته ذلك، داخل الأراضي السورية، وأنَّ روسيا تمتلك قاعدة عسكرية ضخمة في طرطوس وأخرى في حميميم، وأنها قدمت شهداء على الأرض السورية (15 شهيداً فقط، في حادثة الطائرة “إيل” التي أسقطتها “إسرائيل”)، هذا عداك عن المساعدات الكبيرة الإقتصادية والعسكريَّة والإنسانيَّة التي تصل البلاد شهرياً، والدعم الدبلوماسي الدؤوب في المحافل الدولية، ودفعها العجلة الدولية باتجاه عملية إعادة إعمار مادمرته آلة الحرب، بشكلٍ منظم، فإنَّ كل هذه المعطيات تؤدي حتماً الى نتيجة واحدة تُختصر بـــ : روسيا تسعى لأن تدفع “إسرائيل” باهظاً، ثمن رُفات الجندي الصهيوني.
وأنّه عندما تشير تلك المعطيات الواقعية، أن “بوتين” الذي أمر بتسليم جثة الجندي الصهيوني، هو رئيس دولة عظمى، قائد سياسي ذكي، وداهية في المجال العسكري، وهو على يقين تام بأن الموساد الإسرائيلي كان له أيادٍ في الخلافات الروسية مع أوكرانيا، وفي النزاع في أبخازيا وأوسيتيا، وفي الحرب السيبرانية على موسكو، وأنها وراء شرعنةٍ وقحةٍ للعقوبات التي تُفرض على بلاده، فمن المستحيل أن يكون الناتج في معادلة السياسة الروسية في الشرق الأوسط، أن يسقط مثل هكذا زعيم كبير في مصيدة الإسرائيلي الخبيث، وإنما البديهي جداً أن يكون لدى القيصر شيئاً ثميناً وراء الأكمة (معركة إدلب مثلاً).
وعندما تبين المعطيات والدلائل أنه في معادلة السياسة في الشرق الأوسط، أكثر مايُقلق “إسرائيل” هو كيفية تحيًد روسيا في المنطقة، وخاصة بعد أن أصبح الإيرانيون على حدودها الشماليَّة، وبدء نمو قوة حزب الله، في الجولان، بينما ينظر الروس الى “إسرائيل” على أنها السفير الفعلي “لليانكي” في الشرق الأوسط، وذراع الإمبريالية العالمية على المياه الدافئة (الحلم الروسي)، وأنها ستكون الى جانب الأميركي فيما لو إندلع نزاع روسي – أميركي، فإن حل تلك المعادلة وحيد يكمن في أن الروس يزرعون كي يحصدوا، حصاداً وفيراً .
المعادلة الآوضح والتي يجب أخذها بعين الإعتبار قبل كيل الإتهام أو المديح للقيصر الروسي هي أنَّ الرجل يلعب ببراعة على حبال السياسة في الشرق الأوسط، وينجح دائماً في تدوير الزوايا خاصةً منها ما يصب في مصلحة الدولة السورية، فقد سبق ونجح في ضمان الهدوء الإسرائيلي على الجبهة الجنوبية، حين فرض عليها سحب إرهابيي “جبهة النصرة” من هناك، وإغلاق المشافي الميدانية على الحدود وعدم السماح بعبور الإرهابيين منها وإليها، ولعله ينتظر اليوم أن يدفع راعي البقر الأميركي، ثمن بعض رفات الجندي الصهيوني، نيابة عن “إسرائيل”، و ذلك بأن يترك الأكراد وحيدون في مواجهة العاصفة السورية، وربما ينتظر أن تُفتح الأبواب على مصراعيها للحسم سياسياً أو عسكرياً في إدلب .