لم نكن نتوقع أن يصل قطار مكافحة الفساد إلى الرملة البيضاء، ويبدو أنه صِنو قطار الدولة لا يعرف وجهته فيضل الطريق، فضلا عن أنه إذا كان الحدث جلل فلا تعود ثمة إشكالية تاريخية بين محافظة بيروت ومجلس بلديتها، فتنتفي الحساسية المفرطة بينهما وتزول عوارضها فجأة، ويأتي التنسيق على أشده ضاربا مسبح الفقراء ومتنفسهم الوحيد في عاصمة لبنان الأولى، حتى صح قول الشاعر نزار قباني قبل حوالي اليومين “وأهديناك أيا بيروت سكينا”، خصوصا وأن السلطة السياسية مصابة بعمى الألوان أو عمى جزئي، لكن ما يمكن تأكيده أن سلطة بها حوَلٌ فأخطأت العنوان بين مشروع منتجع “الإيدن باي” وشاطىء الرمل الوحيد ومتنفس “ست الدنيا” الباقي بعد أن استباحت السلطة المتوارثة كل حبة رمل على شط الغرام!
لنفترض أن ثمة مخالفة “يرتكبها” الفقراء والناس البسطاء وهم يسبحون وسط “المجارير” الدافقة من مجمعات ومنتجعات الصدفة، علما أن ما هو قائم، ويرقى بحسب وجهة نظر المحافظة والبلدية كان يفترض أن تكون ملاقاته بتقديم درع تقديرية لمن حمى الشاطئ، ونقصد القيمين على حملة الأزرق الكبير، وقد أكدوا أنهم من المنادين بالأزرق الصغير، أو لا أزرق أساسا، فهذا اللون يدل على الحياء وثمة من يحبذ ألوانا تدل على عدم الحياء، أي وقاحة موصوفة.
دراما تلفزيونية سيئة السمعة
إزاء العنوان الكبير لا تعود للتفاصيل قيمة وأهمية، ولن ندخل في حيثيات قرار محافظ بلدية بيروت لجهة إزالة الأكشاك عن الشاطئ الشعبي في الرملة البيضاء بمؤازرة من فوج حرس بيروت وقوى الأمن الداخلي، وتنويه المحافظ ببلدية بيروت التي قامت بواجباتها، ولن نناقش ما أكدته رئيسة “جمعية الأزرق الكبير” عفّت إدريس التي تشغّل الأكشاك، وقولها ان ما ورد في وسائل الإعلام عن مخالفات وتجاوزات ووجود أفران وصالة حفلات عار عن الصحّة.
ولن نقف عندما الجمعية التي تشغّل الشاطئ منذ العام 2003 وأن لديها التراخيص كافّة من وزارة النقل والأشغال العامة المسؤولة عن الشواطئ، فهذا يُدخلنا في ملهاة لا تنتهي، ودراما تلفزيونية سيئة السمعة، ولن نتحدث عن قوى تملك عقارات غير بعيد عن هذه المنطقة، ولا عن نية مبيتة لاستملاك فأسعار الأرض يسيل لها لعاب المسؤولين والأقارب، ولن نتحدث عن قرار انتقائي قضى بنزع المخالفات الصغيرة فيما تغاضى بالعمد وعن سابق إصرار وجريمة عن المخالفات الكبيرة على كل شاطئ بيروت في الزيتونة باي، والجامعة الأميركية لبيروت وفندق الريفييرا وصولاً إلى “الإيدن باي” الجار الوافد على وقع الفساد وأي فساد!
إئتلاف الشاطئ اللبناني
في سياق متابعتنا لقضية “المجمع الكارثة” قبل أكثر من سنتين، وبعد أن تسبب الشتاء الماضي بفضيحة مجاري صرف صحي غمرت الطرقات وصولا إلى الضاحية الجنوبية، لم تجد السلطة الإدارية ما هو أدعى للمواجهة من مسبح يراد له أن يغدو ملكية خاصة على غرار ما تم الاستيلاء عليه في قضية الأملاك البحرية.
وأشار “ائتلاف الشاطئ اللبناني” إلى أنه يثمن ويقدر عاليا “استفاقة رئيس بلدية بيروت ومحافظها على واجباتهم ومسؤولياتهم اتجاه اهالي بيروت والمواطنين جميعا وذلك في تنظيف وتحسين شاطئ الرملة البيضاء، ولكننا نذكرهم ان المخلّفات كما اشار اليها رئيس البلدية في بيانه والتي أزيلت اليوم هي ليست ما يعيق استخدام المواطنين للشاطئ ويشوّهه”.
وقال الائتلاف في بيان: “هذه البنى الخشبية والحديدية هي جزء من مستلزمات اعمال الجمعية المرخص بإقامتها بموجب الكتاب المسجل لدى المديرية العامة للنقل البري والبحري تحت الرقم ٦/١٩٧٦ بتاريخ ٢٠١٩/٣/٤ والتي قامت بما تخلفت بلدية بيروت عن القيام به طوال السنوات الماضية من حماية للشاطئ وتنظيفه وتجهيزه وتفعيل النشاطات العامة فيه واحياء دوره الاجتماعي والثقافي وضمان وصول الناس جميعا للبحر. مع العلم ان اجزاء عديدة من البنى التي تمت ازالتها كانت بالتنسيق مع الجمعية وبناء على طلبها، الا ان اعمال الهدم تعدتها الى كامل المنشآت البسيطة الموجودة وكأنما الهدف من ذلك تعطيل الدور الرائد التي تضطلع به الجمعية على ما تبقى من شاطئ عام في بيروت”.
وأضاف: “بعد ان أرسل أمس الأول رئيس بلدية بيروت جرافاته التي اقتحمت الشاطئ بطريقة همجية ومسرحية ليسجل باسم اهالي بيروت انتصارا على “تخشيبة”، ندعوه الى ارسالها لتقوم بواجبها الى العنوان الصحيح وهو يبعد أمتارا قليلة حيث المبنى الفضيحة اوتيل الايدن باي، علنا نصدق انه فعلا حريص على شاطئ بيروت”.
قصقص
أما عضو بلدية بيروت هدى قصقص فكتبت على صفحتها في “فيسبوك”: “اليوم كان مسبح الرملة البيضا. برافو. كعضو مجلس بلدي سأتقدم خطياً بطلب الإطلاع على الخطة الزمنية التي ستعتمدها بلدية بيروت لإزالة جميع المخالفات عن الاملاك العمومية البحرية والاملاك المحاذية للشاطئ بحسب الخريطة المرفقة، واعدكم بمشاركة الخطة الزمنية مع الجميع من باب الشفافية”.
جمعية نحن
وفي هذا السياق، عرضت “جمعية نحن” خارطة التعديات على واجهة بيروت والتي لم يعالج أي منها، وأوضح رئيس “جمعية نحن” محمد أيوب لـ greenarea.info أن “ما حصل على الرملة البيضاء يدل على سلطة تعمل باستنسابية وكرد فعل انتقامي من جمعية ساهمت بفضح مشروع (الايدن باي) وما رافقه من انتهاكات للقوانين”.
وأضاف أيوب: “هناك أكثر من مئة ألف متر مربع من التعديات لم يتوجه المحافظ إلى أي منها لإزالها، وهذا يدل على الاستنسابية”، وقال: “لو كان القصد تنظيم الشاطئ لما أرسلت الجرافات لإزالة المنشآت بالكامل ومعه أعشاش السلاحف التي لا تزال تتردد على المنطقة”.
ورأى أن “اختيار الجرافة لتنفيذ هذا التدمير التعسفي للمسبح الشعبي في الرمله البيضاء المتنفس الوحيد لأهالي المنطقة يظهر ذهنية الثأر واستخدام القوة وعرض العضلات، وهذا المشهد كنا نتمنى من بلدية بيروت أن يكون في “الايدن باي”.
الريس
وأكد مدير مسبح الرملة البيضاء نزيه الرئيس لـ greenarea.info أن “العملية كيدية لا سيما بعد أن قمنا بفضح مشروع (الايدن باي) إضافة إلى التصعيد بخصوص المجاري التي فاضت على الطرقات”، وعما يتم تداوله بخصوص مخالفة الخيم (كيوسكات) وقد أنشئت على أرض خاصة بموافقة مالكيها، أشار الريس إلى أن “وزارة النقل والأشغال العامة كانت قد استحصلت على موافقة مجلس الوزراء بإقامة ثلاثة (كيوسكات) على الشاطئ بهدف تأمين مدخول للمسبح، لأن الوزارة لا يمكنها التكفل بدفع رواتب الموظفين في المسبح من منقذين وإدارة وعمال تنظيفات”.
ولفت إلى أن “العائدات المادية مخصصة للموظفين وتحسين وتأهيل وصيانة المسبح وكل ما يتطلبه”، مؤكدا أن “الدخول إلى المسبح مجاني بما في ذلك جلب الكراسي والمظلات والطعام، واستخدام المرافق الموجودة، ولا نلزم أحدا بالشراء من (الكيوسكات)”.
بلدية بيروت انتحست
حيال هذا الإمعان في تجهيل المجرم الحقيقي الساعي لوضع الشاطئ في حقيبة تتسع لكل صنوف الصفقات، ومع من تحدث إليهم greenarea.info معبرين عن سخطهم إزاء هذا “القرار التاريخي”، تذكرنا التاريخ الذي غالبا ما يعيد نفسه، وتأكدنا أن ما كتبه الشاعر الراحل أسعد رستم في ستينيات القرن الماضي، وتحديدا في العام 1969 يصح اليوم دون “روتوش”:
“بلدية بيروت انتحست
بطرت من كثرة ما لحست
ومطالب أهليها رفست
فأبت للحال استبدالا
وحلٌ وحلٌ لا لا
جمعوا من سكان البلدِ مالاً
يغني ولدَ الولدِ والناس به لم تستفِدِ
فالمالُ هنالك ما زال بجيوبهم؟ لا لا
لمّا سئلوا عمّا فعلوا قاموا قعدوا عتبوا زعلوا
وبنيران الغيظ اشتعلوا وعلينا صبوا الأوحال
هل ذا عدلٌ؟ لا لا
حفرٌ حفرٌ حفرٌ حفرٌ منها الأهلون لقد كفروا
كم من رجلٍ فيها كسروا
أو حمل عن جحشٍ مالا وجنابكم لا لا”!