يطالب بعض أركان الحكومة “الدولة” أن تحسم أمرها، وتتوقف عن المماطلة والتأخير في تطبيق “الحل الجذري” للنفايات، الذي أقرته في العام 2010، أي الإنتقال الفوري إلى المحارق، التي يحلو لهم الهروب من تسميتها، فيطلقون عليها التعبير المخفف والمموه “التفكك الحراري”.
يعلو صوت بعض النواب هذه الأيام تحذيرا من أن مطامر الحل “المؤقت” في الكوستابرافا وبرج حمود والجديدة قاربت على الإمتلاء، ويحذرون من عودة النفايات إلى الشوارع، إمتدادا لأزمة العام 2015، حيث تحولت بيروت وكل البلد إلى مزبلة كبيرة، مع كل ما رافقها من مخاطر فظيعة على البيئة والصحة العامة. حتى أن بعضهم الآن يذكِّرون الناس بأن موافقتهم في ذلك الحين فتحت الطريق أمام السير قدما بهذه المطامر، على الرغم من كل المعارضات والتحذيرات، التي أطلقناها مع الكثيرين من البيئيين ومناهضي الفساد في البلد.
ندعو الجميع إلى إعادة قراءة ما كتبنا وكتب آخرون، وإلى صراخنا بالصوت العالي من كل المنابر، على امتداد فترة طويلة مستمرة حتى الآن، تحذيرا من المخاطر “البيئية والصحية”، التي يتحسسها الآن من يعلو صوتهم أمام اقتراب استهلاك كامل القدرة الإستيعابية لهذه المطامر. وهذا برأينا استحقاق المخاطر التي كنا نحذر منها.
نحن أولا، حذرنا من مخاطر اختيار الموقع، وتقاطع هذا الإختيار مع المشاريع الحقيقية المعدة مسبقا لهاتين المنطقتين في الكوستابرافا وبرج حمود – الجديدة، ألا وهي مشاريع ردم البحر واستحداث مساحات جديدة على الواجهة البحرية ووضع اليد عليها، مع إغراء البلديات المعنية بحفنة من الدولارات، وبمساحات من الأراضي، سارعوا إلى إقرار مشاريع لها تفويتا لفرصة استفادة البلديات منها في تطوير مشاريع تنموية هي بأمس الحاجة إليها.
ونحن ثانيا، حذرنا من المخاطر الكبيرة على صحة ما يزيد عن مليون ونصف مواطن يسكنون المناطق المتأثرة بالروائح والغازات، التي تنبعث من المطامر غير النظامية في هذه المواقع، ولا سيما أن اتجاه الريح السائد على الساحل اللبناني هو غربي وجنوبي غربي، حيث يحمل الروائح الكريهة والغازات إلى مسافات بعيدة مع سرعة نسيم البحر.
ونحن ثالثا حذرنا من تطويق بيروت بمطامر غير نظامية للنفايات، تضاف إلى ما يطوقها من حزام لمصبات ملايين الأمتار المكعبة من مياه الصرف الصحي غير المعالجة مباشرة في البحر.
ونحن حذرنا رابعا، مما يشكله مطمر الكوستابرافا من تهديد لسلامة الطيران المدني، نظرا لملاصقته المدرج الغربي لمطار رفيق الحريري في بيروت.
ونحن حذرنا خامسا، من ما يسيء إلى لبنان، البلد السياحي، الذي يستقبل زواره ومواطنيه العائدين برائحة النفايات المتعفنة في هذا الموقع. هذا الموقع، الذي تطور من بدعة “الباركينغ” إلى موقع تغطية النفايات بالتراب، إلى ترك الجدار الغربي للمطمر الصحي غير مسلح بالعوازل المانعة لتسرب العصارة إلى البحر، إلى مطمر غير نظامي يستقبل مئات الآلاف من أطنان النفايات، التي تشكل المكونات القابلة للتعفن والتحلل أكثر من نصفها من حيث الوزن.
يعلو اليوم صوت هذه القوى، التي أعطت التأشيرة لهذا المطمر، لتتدارك كل هذه المخاطر، التي بح صوتنا بالتحذير منها طوال 5 سنوات.
قد يقول البعض، لا بأس، “أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي أبدا”. ولكن الأمور لا يمكن قراءتها في هذا السياق، بل بسياق الضغط للإسراع بالقيام بأمرين اثنين، نحن نحذر من مخاطرهما الكبيرة منذ سنوات، ونعيد التأكيد عليها الآن بقوة أكبر، لأن البعض يرى في أزمة النفايات في حلقتها الحالية، أداة فعالة للضغط من أجل تسريع إقرارهما، هذا الأمران هما:
الأول، إزاحة كل المعوقات، التي يمكن إثارتها أمام اتخاذ فوري وسريع، في أول جلسة لمجلس الوزراء، لقرار توسعة مطمري الكوستابرافا وبرج حمود – الجديدة. ولمن لا يعرف، نقول أن خرائط هذه التوسعة معدة منذ ثلاثة سنوات، حتى أن مشاريع قرارات مجلس الوزراء، المتعلقة بهذه التوسعة، مصاغة وجاهزة منذ فترة إقرار التوسعة الأولى لمطمر الكوستابرافا. إنه مشروع ردم البحر في هاذين الموقعين يحتفل بتحققه الواقعي، مع كل مخاطره على الأملاك العامة البحرية، إضافة لتأثيراته طويلة المدى على البيئة، البحرية والشاطئية، وعلى الصحة العامة لهذا الجيل والأجيال القادمة.
والثاني، هو الإسراع في تحويل خطر محارق النفايات إلى أمر واقع، وتجاوز كل الإعتراضات والمحاذير، التي تقف حتى الآن عائقا أمام السير به قدما.
إذا كان إدراك هذه القوى اليوم للمخاطر البيئية والصحية للمطامر الشاطئية في الكوستابرافا وبرج حمود – الجديدة، حقيقيا، ونحن لا نشك بذلك، فمن الأحرى بهم أن يدركوا أيضا ما دأبنا على التحذير منه طوال السنوات الخمس الأخيرة، أي منذ 2015 وحتى اليوم، من المخاطر المستدامة للسير بمشروع محارق النفايات، على البيئة وعلى الصحة البشرية ولأجيال آتية. لمزيد من المعرفة بهذا الأمر، إفتتحنا صفحة على الفيسبوك بعنوان “لا لمحارق النفايات” نعيد فيها نشر كل المقالات المتعلقة بمخاطر محارق النفايات منذ 2015 حتى اليوم، إضافة لملف المحارق الموجود على موقع greenarea.info .
رب سائل يسأل، إذا كنتم تنتقدون المطامر الشاطئية وتعارضونها، وتعارضون محارق النفايات، فماذا تريدون إذن كحل “جذري” ومستدام لأزمة النفايات المستمرة منذ سنوات، حيث لم ولن تشكل الخطط الطارئة والمؤقتة خروجا منها، بل إمعانا بالغرق في مخاطرها على البيئة والصحة العامة وهدر المال العام؟
نحن ندعو إلى أن يطرح نواب الأمة ووزراء الحكومات على أنفسهم الأسئلة حيال جدية وفعالية الإجراءات، التي يهدرون مال الشعب اللبناني لتمويلها؟
هل تساءلتم يوما لماذا فعالية العمل في مركزي فرز الكرنتينا والعمروسية لم تتجاوز نسبة الـ 6-7 بالمئة منذ إنشائهما حتى اليوم؟ بحيث يذهب الباقي موضبا في بالات بيضاء إلى مطمري الكوستابرافا وبرج حمود – الجديدة؟
هل طالبتم يوما باعتماد الإدارة المتكاملة للنفايات، التي ترتكز على الأسس والمباديء التالية: التخفيف، والفرز من المصدر، وفي مراكز فعالة وكفؤة للفرز، والمعالجة والتحويل والتصنيع، والبحث في طبيعة المتبقيات كي يتم تحديد أفضل الطرق للتخلص السليم بيئيا منها، إن في مطامر صحية نظامية تحترم فيها كل المعايير البيئية لجهة اختيار الموقع والتصميم والتشغيل والإدارة؟ أم بطرق أخرى لتصنيع مزيد من المنتجات، واعتماد البحث العلمي للتفتيش عن طرق جديدة؟ وهل عملتم لتحويلها إلى سياسة واستراتيجية وطنية مقرة بقانون أو مرسوم؟
هل كلفتم أنفسكم في مناقشة معمقة وتفكير دقيق في أبعاد مواد قانون النفايات، الذي اقريتموه تحت ضغط الإسراع في تمرير تشريعات مؤتمر “سيدر”؟
هل فكرتم يوما أن السير بجدية في الفرز من المصدر، وتفعيل معامل الفرز الموجودة في كل المناطق اللبنانية بقدرات إستيعابية تفوق كمية النفايات المنتجة في كل لبنان، حيث يجري تعمد إفشالها وإقفالها وتفعيلها وتطويرها ورفع كفاءتها، لأنها منافس حقيقي لمشاريع الطمر الكلي للنفايات (أو شبه الكلي، ما يزيد عن 90 بالمئة من كمية النفايات) ومشاريع محارق النفايات؟
هل فكرتم يوما بإدارة كل أنواع وأصناف النفايات المتولدة من كل المصادر، وبإمكانية الجمع بين بعض مكوناتها لمعالجتها سوية بطرق فعالة وسليمة بيئيا ومنتجة للطاقة الأنظف والأقل تلويثا؟ بدل المحارق عالية كلفة الإنشاء (تقدر بمئات ملايين الدولارات، عودوا لتفاصيل مشاريع “سيدر” لتتبينوا كلفة المحارق، التي تفوق 375 مليون دولار لكل منها)، وعالية كلفة التشغيل والصيانة، وعالية مخاطر التلوث البيئي، وعظيمة المخاطر على الأمان الصحي للبشر ولأجيال قادمة؟
نعم، إن الفرز من المصدر، وتفعيل وتطوير مراكز الفرز سوف يؤديان إلى زيادة ملحوظة في نسبة التدوير للموارد الثانوية واسترداد قيمتها، ومد الصناعة اللبنانية بموارد ثانوية تخفف من استنزاف الموارد الطبيعية وموارد الطاقة وتخفف تلويث البيئة. وسوف يؤديان أيضا إلى إتاحة المجال واسعا لتصنيع “الكومبوست” بأعلى معايير الجودة من المكونات العضوية، التي تجمع بشكل منفصل وخالية من الشوائب والبقايا.
وسوف يسمحان بتطوير صناعة “الهضم اللَّاهوائي” لتوليد البيوغاز وإنتاج الطاقة الأنظف، عبر استقدام المكونات العضوية من النفايات الصلبة المنزلية ومن أسواق الخضار وأسواق السمك والملاحم والمسالخ دون العظام ووحول محطات معالجة المياه المبتذلة إلى مفاعلات الهضم اللَّاههوائي، حيث يتم توليد كميات كبيرة من البيوغاز وإنتاج الطاقة الكهربائية والحرارية دون تعريض البيئة، كما الحال مع محارق النفايات، لتلوث عالي الخطورة بالملوثات العضوية الثابتة والغازات السامة والرماد السام، وتعريض صحة ملايين المواطنين لأكبر المخاطر.
نعم، في ظل هذه الإدارة المتكاملة، سوف نحتاج إلى مطمر صحي نظامي سليم الموقع وإدارة التشغيل، ليستقبل متبقيات لا تزيد نسبتها عن 20-25 بالمئة من وزن مجمل النفايات المتولدة في لبنان، ويكون العمر التشغيلي لهذا المطمر يقاس بعشرات السنوات، ولا يمتليء خلال السنوات الأولى من تشغيله، كما حال مطامركم في الكوسترابرافا وبرج حمود الجديدة.
إذا استمريتم في اختيار ما يريحكم من العمل المستمر في إدارة متكاملة وسليمة بيئيا وآمنة صحيا ومعقولة الكلفة، فأنتم تنتقلون بخياراتكم من حلقة خطيرة للأزمة إلى حلقات أكثر خطورة، وما أوهام اعتبار المحارق حلَّا “جذريا” إلَّا إمعان بالغرق في وحول ومخاطر أزمة النفايات بكل تبعاتها الخطيرة وعالية الكلفة على بيئة لبنان وصحة شعبه وماله العام.