نتائج خطيرة خلص إليها تقرير أعدته حديثا “المصلحة الوطنية لنهر الليطاني” ووزارة الصناعة، لا بل هي نتائج صادمة ومرعبة، حتى وإن كانت متوقعة، غير أنها أرخت بثقلها على أزمة طالت واستفحلت لتؤرق أكثر مواطنين ابتليوا بسوء الإدارة والفساد لعقود طويلة، خصوصا وأننا لا نتحدث هنا عن وجهة نظر أو اجتهاد بيئي وصحي، وإنما عن تقرير علمي مدعم بالأدلة والبراهين العلمية، وجاء متمسما بموثوقية رصينة أكدت ارتفاع حالات السرطان في محيط القرى والبلدات المحيطة والقريبة من ضفتي النهر، منبعا ومصبا وحوضا وبحيرة.
وكانت الوزارة والمصلحة قد أنجزتا في أواخر آب (أغسطس) الماضي، المرحلة الأولى من مسح المؤسسات الصناعية في الحوض الأعلى لنهر الليطاني، وكانت قد انطلقت في شباط (فبراير) الماضي، وخلصتا إلى أن ثمة 201 مؤسسة من أصل 633 مدرجة في بيانات الوزارة، وليتبين أن 122 منها غير ملوث في مقابل 79 ملوثة، لم يقفل منها سوى 28 مؤسسة فقط، وليتبين أيضا أن أكثر المؤسسات الملوثة هي المسالخ، وبعضها لا يراعي أية شروط بيئية.
حقائق وأرقام
بين الصدمة والمفاجأة والتوقع يمكن أن نلخص واقعا مأسأويا، لا بل كارثيا تحول من أزمة نهر إلى أزمة وطن، لا سيما وأن حال الليطاني غير منفصل عن كل تبعات الفساد، قديمها والمستمر راهنا مع وعود باجتثات شأفته من الجذور.
يهمنا بادىء ذي بدء، أن نعرض لأهم ما تنأوله التقرير الذي عرضه وزير الصناعة وائل أبو فاعور على مجلس الوزراء، ففي مقدمته وتحت عنوان “الإصابات السرطانية في الحوض الأعلى لنهر الليطاني: حقائق وأرقام”، أكد التقرير أن بعض البلدات والقرى اللبنانية تشهد نسبة إصابات مرتفعة بالسرطان مقارنة مع المعدل العام للإصابة بالسرطان في لبنان وفي العالم اجمع، تعتبر استراليا الدولة الأولى عالميا في الإصابة بالسرطان حيث يبلغ معدل الإصابة 468 لكل 100000 نسمة.
تجدر الإشارة إلى أن لبنان يحتل المرتبة الثامنة والأربعين عالميا مع معدل 242.8 إصابة لكل 100000 نسمة، وعند مقارنة هذه المعدلات مع معدلات الإصابة بالسرطان في بعض البلدات اللبنانية الواقعة في الحوض الأعلى لنهر الليطاني، يظهر الفرق الشاسع بين المعدلات التي تبلغ اضعاف المعدل الأعلى عالميا. وبحسب التقرير، يسجل في بلدة بر الياس البالغ عدد سكانها 12185 نسمة، 600 حالة اصابة بالسرطان، أما في بلدة حوش الرافقة البالغ عدد سكانها 1704 نسمة فهناك 60 حالة اصابة بالسرطان، وفي بلدة تمنين التحتا البالغ عدد سكانها 3863 نسمة هناك 40 حالة إصابة بالسرطان (وفقا لإحصاء الحالات الإستشفائية لمرضى السرطان المعالجين على نفقة وزارة الصحة في لبنان)، فضلا عن معدلات عالية تسجل في كل من بلدات القرعون، المرج، المنصورة، غزة، حوش الحريمة، الروضة، الدلهمية والفرزل.
الأسباب المحتملة للإصابات المرتفعة
في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن ثمة العديد من الأسباب التي تؤدي إلى الإصابة بالسرطان، ومن ضمنها الأسباب البيئية كتلوث الماء والهواء، وبحسب التقرير، فالأسباب الممكنة وراء الإصابات المرتفعة بالسرطان في الحوض الأعلى لنهر الليطاني، تقود إلى التفكير بالمشكلة الأساسية التي يتعرض لها لبنان عموما وسكان حوض نهر الليطاني خصوصا، ألا وهي تلوث نهر الليطاني الذي تحول إلى نهر للصرف الصناعي والصحي والزراعي، فأصبح ناقلا للأوبئة والأمراض وأدى إلى تلوث المياه الجوفية والآبار والأراضي الزراعية.
إن مثل هذا الإستنتاج خلصت إليه دراسة حديثة نشرت في “مجلة السرطان” journal cancer، إذ أشارت إلى أن “البلدان ذات معدلات التلوث الأعلى (بما في ذلك تلوث المياه) لديها معدلات أعلى من السرطان”.
الصرف الصناعي
توقف التقرير عند المؤسسات الصناعية الواقعة في حوض نهر الليطاني، ورأى أنها السبب الأول المسؤول عن وجود المواد المسرطنة في النهر، وثمة العديد من المواد المصنفة كمواد مسرطنة، وهي أكثر خمس ملوثات مياه منتشرة ومرتبطة بالسرطان اكتشفت حتى تاريخنا هذا، بالإضافة إلى المصدر المسؤول عن تسربها في المياه، وأنواع السرطان التي يمكن ان تتسبب بها.
وبالإضافة إلى هذه الملوثات المثبتة كمواد مسرطنة، هناك العديد من المواد المشكوك في تسببها بالسرطان والتي ما تزال قيد الدراسة، ومنها: الفليور ايد، رابع كلوريد اإليثيلين والجراثيم.
ديوكسان-1،4
ومن الملوثات المسرطة الـ “ديوكسان-1،4″، أما المصانع المسؤولة عن صرف هذا الملوث في النهر هي مصانع مستحضرات التجميل والمنظفات والدهانات التي بلغ عددها 9 في المسح الأولي الذي ضم 192 مؤسسة صناعية، والذي قام به الفريق الفني للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني، إذ تبين وجود 6 مصانع من أصل 9 كانت ملوثة للنهر وتصب صرفها الصناعي فيه أو في شبكات الصرف الصحي دون اي عملية معالجة.
يتواجد ايضا الديوكسان بتركيزات عالية جدا في مكبات النفايات كونه شائع في الكثير من المركبات، كما أن وجود مكب للنفايات في بلدية بر الياس يزيد مشكلة تلوث النهر حيث يتسرب الديوكسان من النفايات في المكب فتزيد نسبته في المياه.
الزرنيخ
وأشار التقرير إلى دراسة تم اعدادها في ربيع صيف 2016 حول نسب الملوثات في نهر الليطاني، ومن بين هذه الملوثات تم قياس نسبة الزرنيخ التي كانت فوق الحد الأقصى المسموح به لصرف الزرنيخ في النهر حسب القرار 8/1 الصادر عن وزارة البيئة في العام 2011 والذي يبلغ 0.1 ملغ/ليتر فقط، وفوق الحد الأقصى المسموح به في مياه الري والذي يبلغ 0.1 ملغ/ليتر ايضا.
الكروم 6
ومن الملوثات “الكروم 6” ويصدر عن عمل مصانع الدهانات والدباغة، يبلغ عدد مصانع الدهانات التي تم الكشف عليها في المسح الأولي 4 مصانع، 3 منها ملوثة للنهر، اي ان احتمال وجود الكروم 6 في مياه النهر موجود.
وتجدر الإشارة إلى البقايا النباتية والحيوانية في نهر الليطاني (أبرزها بقايا المسالخ والمزارع) وتتواجد عند تسرب مياه النهر إلى المياه الجوفية، فتحمل المياه هذه المخلفات معها تتفاعل مع الكلور عندما يضاف بشكل عشوائي إلى المياه بهدف تنظيفها من مسببات الأمراض، يقتل الكلور الجراثيم المسببة للأراض لكنه يتفاعل مع المواد العضوية في البقايا فيشكل نواتج التطهير الجانبية السامة المسببة للسرطان.
النترات
وبالنسبة إلى “النترات”، أشار التقرير إلى أنه يوجد عدة اسباب خلف تواجده في النهر، اهمها الإسراف في استعمال الأسمدة الذي يؤدي إلى التسرب الزراعي المحمل بالنترات، بالإضافة إلى المزارع التي ترمي مخلفاتها في النهر، ولا يخفى امر تحويل 69 بلدة في اقضية زحلة، البقاع الغربي وبعلبك، للصرف الصحي إلى نهر الليطاني مباشرة.
الليطاني حامل وناقل للسرطان
تبقى الإشارة إلى ان جميع المواد المسرطنة المذكورة في التقرير تتواجد حاليا في نهر الليطاني، وجميع مسبباتها كانت موجودة وال زالت، مما يؤكد فرضية كون نهر الليطاني نهرا حاملا ناقلا للسرطان. الجدير بالذكر ان هذه الملوثات المسرطنة لا يقتصر وجودها على نهر الليطاني وحسب، بل هي على الأرجح تتسرب إلى المياه الجوفية وتلوثها فتنقل السرطان مباشرة إلى عقر دار السكان.