من أين يمكن البدء في نقاش الورقة الاقتصادية المسماة خطة إنقاذية للاقتصاد؟ من ورقة “لازار” التي اعتبرت مجموعة افكار ليس الا بعد ان سُوّقَت كأنها فتح مبين؟ أم من الورقة الاقتصادية التي ودع فيها الرئيس سعد الحريري اللبنانيين كأنها الترياق؟ أم من خطة ماكينزي الأعجوبة، بعدما أغدقت الدولة توصيفات “تاريخية” “غير مسبوقة” “وللمرة الأولى” عليها كلها، علمًا ان هناك ثماني خطط، على الأقل، وضعت خلال السنوات الثلاثين الماضية!
الأكيد بدايًة ان الحكومة الحالية لا تتحمل مسؤولية الأزمة او وزرها، بل ان الحكومات المتعاقبة منذ ما بعد ولادة إتفاق الطائف وانتهاء الحرب الأهلية، هي المسؤولة. ولكن هذه الحكومة معنية لأنها اتخذت قرارًا مفصليًا يتعلق بإعلان تعثر لبنان عن دفع سندات اليوروبوند المستحقة لهذه السنة، اي اعلان الإفلاس قبل توفر خطة تترافق مع هذا الإعلان الخطير، برغم وجود عشرات الصيغ لتأجيل الاستحقاق من دون ان تلزم الدولة نفسها بالدفع او بإعلان التعثر، بل كان يمكنها تأجيل الامر الى حين توفر مستلزمات الإعلان (التعثر)، وبعقل بارد، وفي ظرف يمكن أن تتحكم به الدولة لا الدائنين؛ اللهم الا إذا كان البعض يريد فعلًا ومنذ امد بعيد ان يقول الا خيار أمامكم الا صندوق النقد الدولي! وقد عمل هذا البعض الى جر لبنان نحو هذا المأزق وهو يبتسم وبكل ثقة، فاتخذ القرار الأفضل بالشكل الأسوأ، وبالتوقيت القاتل ومن دون اي تحضير لمواجهة مستلزماته او تحذير لمخاطره .
هذه الورقة التي أقرتها الحكومة وصارت عنوان خطتها المالية، هي بيان للدائنين ام خارطة إطار ام ورقة مالية ام خطة انقاذية؟ مهما كانت التسمية، برغم انه في علم الاقتصاد، ثمة فوارق ومسافات بين كل واحدة منها، من المقاربة الى النتيجة، فإنها تتسم بالآتي:
١.سيادة المنطق المحاسبي، فلا إدارة مالية ولا مقاربة اقتصادية بل مسك دفاتر وحسابات دون أبعاد او ارتباط او تاثيرات او انعكاس اجتماعي. ويسحب هذا المنطق نفسه على كيفية احتساب الخسائر وصولًا الى تصفيرها وكأن لا غداً للبلاد أو مستقبلاً أو امكانية تدوير !
٢.تأبيد الخيارات النقدية والمالية التي حكمت البلاد لأكثر من ربع قرن وأوصلت لبنان الى حاله اليوم، وذلك عبر حصر الحلول العملية في المنطق النقدي التمويلي الآتي من الخارج من دون محاولة كسر هذه الحلقة المقفلة والمدمرة والتي لا يمكن كسرها الا بالاقتصاد المنتج الموجه الى الداخل والى التصدير .
٣.عقدة التمويل واستعصائها في وقت ان ما يزيد عن ٢٨٠ مليار دولار قد دخلت البلاد خلال ٢٨ عامًا سواء كودائع ورساميل او جباية ضرائب ورسوم مما يزيد ويفيض عن حاجة البلاد مرات عديدة. مبالغ كانت حتى العام ٢٠١٥ اكبر من مشروع مارشال بالنسبة لالمانيا حسب دراسة البنك الدولي، ولكن النتيجة كانت ديونًا وفوائد وهدرًا وسرقة وتعثراً وإفلاسا، ذلك أن العبرة هي في كيفية الصرف وليس بحجم الموارد .وهذا يقودنا للقول إن تقطيب السلة وإقفال المزاريب اولوية لكي يستفاد من التمويل وعندها يمكن البحث عن الحاجة الملحة وعن امكانية توفر التمويل ومصادره، أما المضي بالمقاربة نفسها، فإنه يجعلنا مرة أخرى رهينة المبرد إياه حيث كنا وما نزال .
٤.سيطرة مطلقة ومحكمة لبرنامج صندوق النقد الدولي والتزام تام بشروطه مسبقًا من الالف الى الياء، وهو امر سابق حتى على تأليف الحكومة. هنا، أسمح لنفسي بالكشف عن عشرات اللقاءات مع المسؤولين قبل وإبان تشكيل الحكومة، والقناعة الراسخة لديهم كانت ان لا حل الا بالذهاب الى الصندوق. لم يكن وقتها متوفرا للكثيرين منهم التحجج بالأرقام، لانه وبرغم كل ما كان يقال عن شح لا بل عن انعدام المال، الا ان الأرقام الحقيقية كانت معروفة. وقد تبين صحة المتبقي منها عند الإعلان عن التعثر.. ما يعني ان الرقم المتبقي يسمح بالتصرف والقيام بخطوات عديدة برغم حراجة الموقف! ولكن القرار كان قد اتخذ.. وسبق السيف العذل.
تضمنت خطة الحكومة، بل وللدقة أكثر، خطة الطبقة السياسية مجتمعةً، البنود الآتية:
أولاً، تحرير سعر صرف الليرة بدءًا من ٣٥٠٠ ليرة منذ اللحظة الأولى وبارتفاع سنوي ليصل الدولار الى حدود ٤٣٠٠ ليرة. وما تعديل هذه الفقرة في الصيغة الأخيرة الا ليؤكد القرار بان تحرير سعر الصرف ثابت لان الورقة تقول ان كل التسعير بني على سعر ٣٥٠٠ ليرة، واستمر الكلام عن نسبة الارتفاع في الورقة واللافت للإنتباه ان تقييم الخسائر والعوائد والأرقام استند الى هذه العتبة بينما كان تسعير “لازار”، قبل أيام معدودة، قد اعتمد السعر الرسمي ٢٩٧٥ ليرة بعد سنتين من التصحيح.
ثانياً، اعادة هيكلة القطاع العام ووقف التوظيف ومنع التعاقد وإعادة النظر بنظام التقاعد وتجميد الرواتب لخمس سنوات (تم تلطيف هذه العبارة في ما بعد ) مع الإقرار بنسبة تضخم تبلغ ٥٣ بالمئة بعد ان كانت تبلغ ٢٥ بالمئة قبل أيام في ورقة “لازار” .
ثالثاً، رزمة ضرائب غير منطقية وغير عملية في زمن الانهيار والانكماش الاقتصادي، تطال الفئات الفقيرة والمتحولة باتجاه الفقر وتكبل امكانية التوظيف بالإنتاج من رفع الضريبة على القيمة المضافة الى البنزين وصولًا الى أرباح الشركات المفلسة او التي على وشك الإفلاس، مع رفع كل الحمايات الاجتماعية.
رابعاً، احتساب غير منطقي للخسائر عبر اخفاء بعضها وتضخيم بعضها الآخر وإخفاء الضمانات المعطاة مقابلها وذلك لحسابات سياسية او مصلحية او تحاصصية، كل ذلك قبل التدقيق الدولي المزمع!
خامساً، خصخصة كاملة بمسميات مختلفة لكل مرافق الدولة وممتلكاتها بما فيها ممتلكات المصرف المركزي على طريقة شركة “سوليدير” نفسها، اي تعميم النموذج على كل لبنان بدلًا من معالجة النموذج الأم.
سادساً، كشف البلد بالكامل أمام شركات دولية معروفة او مجهولة التوجهات والمصالح وبعضها نافر بعلاقته مع العدو الاسرائيلي.
سابعاً، اقتراحات لتغيير بنية مساهمي المصارف دون معايير تكفل امكانية استخدامها السليم في الفترة التصحيحية وكما دون وضع ضوابط بعدم اعادة لعب ادوار مشوهة او مشبوهة.
ثامناً، برغم إقرار الورقة بثقل انعكاسات الأزمة السورية على لبنان منذ ٢٠١١ وتقدير الخسائر الناجمة عن النزوح ب٢٥ مليار دولار وإقفال الحدود بتغير كارثي للاقتصاد اللبناني، لم تعر الورقة أي اعتبار للعلاقة الاقتصادية مع سوريا سواء كبلد تبادل وتشارك او كبلد ـ معبر نحو العالم العربي.
الورقة هي استنساخ للورقة المقدمة في آخر أسبوع من عمر الحكومة السابقة مع اضافة برنامج صندوق النقد الدولي وتغيير في بنية مساهمي المصارف .
هل من حلول بديلة؟
بالتأكيد هناك حلول بديلة ومتنوعة، ولكن مقاربتها تعني ضرورة إحداث تغيير جدي وجذري في النموذج الريعي، لا تغيير شكليا او لفظيا، وكذلك ضرورة توزُع مختلف للخسائر يحمّل من استفاد وهرّب أموالاً وخالف القانون، لا من دفع ثمن السياسات ويدفع اليوم ثمن نتائجها.
ينشر بالتزامن مع موقع ١٨٠