لم تنته تداعيات انفجار ما كان يسمى “بعاصمة لبنان” حتى الآن، وعلى ما يبدو فإن نهايتها ليست قريبة على الأقل في الأمد المنظور. فعمليات الإنقاذ لم تصل إلى خواتيمها بعد ، لا زال هناك شهداء، مفقودين، وضحايا تحت الأنقاض. ناهيك عن ما نجوا من الإنفجار، ولكن بالتأكيد لن ينجو من تداعياته.
إنّه الجحيم بحد ذاته، جحيماً نعيش فيه منذ أن تسلّمت هذه الطبقة السياسية الفاسقة الحكم . نعم نعيش في حجيمٍ تحكمه الشياطين بحد ذاتها، فلا مبرر حكومي سياسي، أخلاقي، أو حتى علمي، يعفو كل فردٍ من المسؤولين – غير المسؤولين- من شيطنتهم وقراراتهم المشبوهة.
كيف لا، وليس هناك من رادعٍ أخلاقي أو إنساني أو ضميري أو محاسبة أو حتى شعبي، يمنعهم من إنتهاك حرمة حياتنا ، قتل أبناءنا ، قتل أحلامنا وطموحتنا. فنحن في لبنان لا نعيش أيامنا بل ننجو منها فقط.
الرواية السياسية للإنفجار الذي هزّ بيروت ، تقول أنّه وقع في مخزن بالمرفأ كان يحتوي على مخزون كبيرٍ من مادة نترات الأمونيوم، حدّد بـ 2750 طناً ، كانت مخزنة بطريقة غير آمنة، في مستودعٍ لنحو ست سنوات.
أما الخبراء فيعتبرون أن هناك سببين يؤديان إلى تفجير مادة نترات الأمونيوم، وهما: إما تعرض هذه المادة لدرجة حرارة تفوق 210 درجات حرارة مئوية، ما يؤدي إلى تفككها وتحللها. أو تعرضها لصدمة انفجارية ناجمة عن ضغط حراري عالٍ.
وبين الرواية ورأي الخبراء حقيقة واضحة “إهمالٌ متعمدٌ وشعبٌ يدفع الثمن”.
مخلفات هذا الإنفجار البشرية والإنشائية أصبحت شبه معلومة للجميع، فماذا عن الأضرار غير المرئية، التي لا تقل خطورةً؟
في البداية، لا بد من تحديد طبيعة مادة نترات الأمونيوم، وهي مركب كيميائي له الصيغة NH4NO3، ويوجد في الشروط القياسية على شكل بلورات عديمة اللون، سهلة الانحلال في الماء وهي تتسيّل بسهولة لدى تماسها مع الهواء.
ويستعمل هذا المركب بشكل أساسي في صناعة المتفجرات، المستخدمة في المناجم والإنشاءات الهندسية؛ كما يستخدم نظراً لمحتواه العالي من النتروجين في تركيب الأسمدة.
إلاّ أنّ العديد من الدول تعمد مؤخراً، إلى التقليل التدريجي من استخدام نترات الأمونيوم ضمن التطبيقات الاستهلاكية، نظراً لخطورة التعامل مع هذه المادة ولاحتمالية إساءة استخدامها.
كذلك فإن مركب نترات الأمونيوم مسبب للحرائق، لذا يجب أخذ الحيطة والحذر عند التعامل معه عند تخزينه أو نقله؛ إذ إن التسخين أو تقريب أي مصدر حراري، يؤدي إلى التسبب بانفجار هذا المركب. كذلك يتفاعل نترات الأمونيوم مع المواد القابلة للاشتعال، و مع المواد المختزلة نظراً لكونه مؤكسداً قوياً؛ كما يجب عزله عن باقي المواد الكيميائية الأخرى، نظراً لنشاطه الكيميائي الكبير.
أما فيما يتعلق بالأضرار غير المرئية لنترات الأمونيوم، فهي تنعكس بشكلٍ مباشرٍ على صحة السكان وعلى البيئة.
فوفق موقع “الغارديان” فإن المواد الكيميائية الناتجة عن الانفجار تتبدد في الجو سريعاً، لكن بعض الملوثات قد تظل موجودة مثل أكسيد النيتروجين، وهو ما يتسبب في سحابة حمراء فوق موقع الانفجار. وقد تتسبب هذه الملوثات في مشاكل في ما بعد، مثل المطر الحمضي الذي يضر البيئة.
أما على الصعيد الصحيّ، وكما يقول الخبراء فإن الدخان الناتج من الانفجار يحتوي على الكثير من الجسيمات والغازات السامة، مثل ثاني أكسيد النتروجين (NO2) وبعض الجسيمات الدقيقة، التي ستبقى تتفاعل في الهواء لفترة من الوقت. وبالتالي، فإن المضاعفات الصحية لهذه المواد ترتكز على صعوبة في التنفس، وتهيج في العين والجلد. حيث يعتبر الأطفال وكبار السن الأكثر عرضة لهذه الآثار.
في الجهة المقابلة، يمكن اتخاذ بعض الإجراءات الوقائية، ومنها: غسل اليدين والوجه والجلد المكشوف بالماء والصابون عدة مرات خلال النهار، تنظيف جميع الأسطح الداخلية في المنزل باستخدام مناشف مبللة لإزالة الجزيئيات وعدم تشتتها في الهواء، ثم تجفيف هذه الأسطح. ارتداء أقنعة خاصة عند تنظيف الغبار والخروج من المنزل، ارتداء قفازات سميكة لحماية اليدين من رذاذ الزجاج، ورشّ الشرفات بالمياه، ما يساعد على ترسّب الجسيمات بشكل أسرع.
قد تكون صلاحية الأضرار المادية والبيئيّة والصحيّة، مؤقتة ومتوفرة الحلول.ولكن ماذا عن الأضرار النفسيّة التي دخلت بيوت كل اللبنانيين سواء تضرروا بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، فمن يستطيع أن ينسى مشهد الضحايا والمشردين والجرحى والمفقودين، و الدمار والبيوت والإنشاءات المهدمة؟ أيّ أمٍّ تستطيع أن تنسى جريها لساعات وأيام بإنتظار خبرٍ ما عن فلذة كبدها؟ أيّ طفلٍ يستطيع أن ينزع من ذاكرته لحظات الرعب والخوف التي عاشها؟ من يستطيع أن ينسى مشهد مدينة بأكملها تنهار، فتظن للحظاتٍ، هي أقرب إلى التمنيّ، بأن يكون ما تشاهده كابوساً أو فيلماً خرافياً ؟
نحن جميعنا مذنبون، نعم مذنبون لأنّنا اخترنا أن نبقى في وطننا ، مذنبون لأننا أبّينا التخلي عنه رغم مرّه الذي يفوق حلّوه بأضعافٍ، نحن كلنا مذنبون وندفع ضريبة اختيار الوطن.
قد لا نكون جميعاً فقدنا أعزاء جراء الإنفجار، ولكننا بالتأكيد فقدنا جزءاً كبيراً- إن لم يكن كلّ- من أملنا بالعيش في وطننا بأمنٍ وأمانٍ.