قليلة هي السدود المائية في لبنان، وشحيحة هي مخطّطات الدولة ونيّتها، لإنشاء سدود تحفظ فيها، على الأقلّ، خيرات الأمطار والينابيع والأنهار في موسم الشتاء، والتي لا نستفيد منها، فتذهب هدراً إلى البحر، حاملة معها الكثير من”الممنوعات البيئية”. ولسدّ القرعون وبحيرته الإصطناعية التي تشقّ سهل البقاع الغربي، حكايةٌ تروى، كانت للقاضي المرحوم عبد الله حمّود محمود ناصر(1924-2008)، اليد الطولى في إحياء هذا المشروع الحيوي، على الرغم من كلّ المضايقات والعراقيل التي وقفت في وجهه، وهو في الأساس، غير مستفيد منه مناطقياً كما يفكّر كلّ صاحب مشروع، كونه من منطقة أخرى، وتحديداً من بلدة الحصين في فتوح كسروان. فمن حسن حظّ أهالي البقاع الغربي أن قيّض الله لهم القاضي ناصر، فالتقى حرصه وإرادته، بثقتهم الكبيرة، ولم تنجح السياسة اللبنانية العرجاء في إرساء التعطيل، دأبها في الكثير من المحطّات التي تهمّ الوطن والمواطن، إذ تواطأ وزير العدل آنذاك في العام 1956، مع قاض مقرّب منه،لاستبعاد ناصر، ولكنّ رئيس الجمهورية فؤاد شهاب أصرّ على ترؤسه للجنة الاستملاك. قبل وفاة القاضي ناصر في 2 كانون الثاني 2008، إلتقيت به في مكتب المحاماة الخاص به والذي افتتحه بعد تقاعده من الجسم القضائي، فأخبرني ما حصل معه على مدار سبع سنوات من الإنكباب على ملفّات استملاكات الأراضي، حتّى بتّ فيها بالشكل القانوني المناسب، ليخرج منتصراً، وليرتسم الرضا على وجوه الأهالي الخائفين على رزقهم، وهم فلاّحون ومزارعون إعتادوا على مجابهة كلّ الإغراءات، ومحاولات الإسترضاء، مقابل التنازل عن شبر واحد من أرض أعطوها الكثير من ذواتهم حتّى باتت قطعة من أرواحهم. قال ناصر:”في العام 1956، تعيّنت لجنة إستملاك برئاسة أحد المهندسين، وأصدر قرارات عدّة، لم يتقبّلها المواطنون، فنظّمت على الأثر، مظاهرات واعتصامات، وتعرّضت اللجنة لاعتداء، وتقدّم نوّاب المنطقة بمشروع قانون لإلغاء اللجنة وقراراتها”، فكان لهم ما أرادوا، بعد مماطلة وتسويف،وعيّنت لجنة بديلة في العام 1958، وسمّي ناصر لرئاستها، ولكنّه لم يبدِ في البدء، حماسة ورغبة في تحمّل هذه المسؤولية الكبيرة خصوصاً في ظلّ ما شهدته اللجنة من قبل، وحصلت ضغوطات ومحاولات كثيرة لتعديل مرسوم تأليف اللجنة، وتدخّل رئيس الجمهورية فؤاد شهاب شخصياً، طالباً إبقاء ناصر على رأس اللجنة الأصلية، وليس اللجنة الرديفة، لثقته الكبيرة بنصاعة كفّه وحرّية ضميره، وهو ما حدث بالفعل. وعندما ذهب القاضي ناصر لترؤّس أوّل جلسة، وجد حشود الناس تنتظره مع فرقة عسكرية أرسلها المحافظ المرحوم فوزي بردويل لحمايته مع أعضاء اللجنة، فطلب من رئيسها الإنصراف، واجتمع بالأهالي حيث استمع إلى آرائهم وهواجسهم، ورفعت الجلسة لإصدار القرار. “وبعد يومين أو ثلاثة، إجتمعت اللجنة مع مندوب من بلدة القرعون، إسمه خليل عميص، وتداولت معه في الأسعار، ووضعت سعراً مختلفاً عن السعر الذي كانت اللجنة السابقة قد وضعته، ولاحظت تعويضاً لكي يتمكّنوا من شراء أرض في غير منطقة ويعتاشوا منها، لأنّ حوض البحيرة أتى على كامل أراضيهم الزراعية”. زفّ عميص بشرى التعديلات غير المنتظرة، إلى الأهالي الذين سارعوا إلى ملاقاتها والموافقة عليها، على الرغم من أنّهم كانوا حذرين في مقاربة بيع أراضيهم. إنتهت الخطوة الأولى، وهي الأصعب في المشروع، بنجاح تام، وذلك بفضل مثابرة ناصر، وإصراره على إحقاق الحقّ، ولازمت اللجنة درس الملفّات حتّى انتهت من الاستملاكات في العام 1963، لينشأ سدّ القرعون وبحيرتُهُ الجامعة لمياه نهر الليطاني ومياه الأمطار، والتي تشكّل رافداً مهمّاً لتوليد الطاقة الكهربائية في معامل مركبا، والأولي، وجون، بالإضافة إلى ريّ مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية في البقاع والجنوب على حدّ سواء.    

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This