أنور عقل ضو |

شكلت مواقف البابا فرنسيس – في أول وثيقة بابوية كرسها للبيئة والمناخ – منعطفاً حاسماً حيال ما يشهد العالم من استحقاقات داهمة وأخطار تطاول الكوكب، وصوّبت مسار النقاشات واللقاءات الممهِّدة لموتمر باريس أبعد بكثير من معالجة النتيجة، أي التلوث وارتفاع درجة حرارة الأرض، فتصدت للسبب ولإشكاليات في السياسة والاقتصاد، حين دعا إلى تغيير أسلوب حياة الدول الغنية التي تنغمس في الثقافة الاستهلاكية “الخرقاء”.

لن تلقى توجهات البابا فرنسيس ترحيباً من كبار صانعي القرار في العالم، كما لن يجرؤ كثيرون على نقض مواقفه، فالموقع ليسَ بسهلٍ رجمه بوابلِ الانتقادات، ولا التطاول على ما يمثل من رمزية إيمانية، وهو المتربع على عرش الكنيسة الكاثوليكية التي ينتمي إلى فضائها أكثر 1.2 مليار إنسان في العالم، وأكثر ما تم رصده من مواقف أن ثمة من اعتبر أن بابا الفاتيكان أقحم الكنيسة الكاثوليكية في جدل سياسي بشأن قضية تغير المناخ.

لا بد من الإشارة إلى أنه في انتقاده الرأسمالية خلال استقباله الزعيم الكوبي فيديل كاسترو واعتبارها “مصدر لعدم المساواة على أفضل تقدير، وقاتلة في أسوأ الأحوال”، تساءل الصحافي إد ستروتون “هل البابا فرنسيس شيوعي؟”، حتى أن ستيفن مور، الاقتصادي البارز في مؤسسة ” هيريتيدج” اعتبر أنه البابا “يتمتع على نحو واضح بقدر من تعاليم الماركسية، ومما لا شك فيه أن لديه انتقادات صريحة بشأن الرأسمالية والتجارة الحرة، وأرى ذلك مشكلة كبيرة”، ولم تكن مجرد دعابة من كاسترو أن يقول “إذا واصل البابا طريقه، سأعود لأصلي وسأعود إلى الكنيسة”، وأردف “أنا لا أمزح.”

لم يدرك الغرب إلى الآن أن البابا فرنسيس قادم من فضاء إنساني، من أميركا اللاتينية التي عاش وجع فقرائها، فتبنى قضايا الإنسان بعيدا من أيديولوجيات معقدة في السياسة والاقتصاد، واختار اسم القديس فرنسيس الأسيزي، وهذه سابقة في تاريخ الفاتيكان، إذ لم يسبق لأي بابا أن اختار هذا الاسم الذي يمثل إحدى أكثر الشخصيات المبجلة بتاريخ الكنيسة الكاثوليكية، وهي ترمز إلى التواضع وحياة التقشف والانحياز إلى الفقراء.

من هنا، جاءت مواقف البابا من قضايا البيئة والمناخ صادمة لكثيرين، ولا سيما المرشحين الجمهوريين للرئاسة الأميركية ممن انتقدوا رأس الكنيسة الكاثوليكية، لأنه أقحم السياسة في العلم، خصوصا عندما أكد أن حماية الكوكب ضرورة معنوية وأخلاقية للمؤمنين وغيرهم على حد سواء تسمو على المصالح السياسية والاقتصادية.

واتسمت مواقف البابا فرنسيس بكثير من الجدية، عندما ندد “بقصر النظر السياسي” الذي عطل – برأيه – العمل البيئي البعيد النظر، فاعتبر أن كثيرين ممن يملكون المزيد من الموارد والنفوذ السياسي أو الاقتصادي يعملون على إخفاء المشاكل أو التستر على أعراضها.

لا بل أبعد من ذلك جدد البابا فرنسيس انتقاده لـ “المفهوم السحري للسوق الذي يوحي بأنه يمكن حل المشاكل ببساطة من خلال زيادة ربحية الشركات والأفراد”، واعتبر أن وتيرة الاستهلاك والنفايات وتغيير البيئة تجاوزت كثيرا قدرة الكوكب، لدرجة ان نمط حياتنا المعاصر الذي أصبح لا يطاق لن يؤدي إلا إلى الكوارث مثل تلك التي تحدث الآن، وبين الحين والآخر في بقاع مختلفة من العالم.

وكان حازما في قوله أنه “يتعين علينا أن نفكر في قدرتنا على محاسبة أولئك الذين يجب ان يتحملوا العواقب الوخيمة”، والأهم أنه في عدة مواضع في رسالته البابوية التي تقع في ستة فصول، واجه البابا مباشرة من ينكرون قضية تغير المناخ، ومن يقولون إنها ليست من صنع البشر، مؤكدا أن الإنسانية مطالبة بالإعتراف بضرورة تغيير نمط الحياة والإنتاج والاستهلاك.

لم يلقِ البابا فرنسيس بالأمس خطابا عاديا ولا قدم مجرد وثيقة رصد فيها مكامن الخطر الذي يتهدد مصير الانسان على هذا الكوكب فحسب، وإنما حدد خارطة طريق لمؤتمر باريس، وحدها تصلح لمقاربة ما نشهد من اختبار جديد يجنب العالم تبعات تغيرات المناخ كقضية إنسانية وأخلاقية.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This