أن تشارك في مظاهرات مطلبية مذ تفتّحت عيناك على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد لهو أمر صعب، ومدعاة فخر في آن. أقول، أو أدّعي ما سبق، وأنا عرفت الشارع لحوالي عشر سنوات. أشارك في المظاهرات المطلبية مذ كان عمري 15 سنة، وعديد أصدقائي تعرّفت اليهم هناك، في الشارع، نرفع الصوت ونهتف مطالبين بمعظم ما يطالب به حاليا من نزل في 22 و29 آب (أغسطس). أقول ما سبق وخيبات حملة “إسقاط النظام الطائفي” وهيئة التنسيق النقابية وموضوع المستأجرين القدامى لا تبارح ذهني. أقول ما سبق، وانا كنت اتخذت قراراً، قبل عودتي من غياب سنة عن البلاد، بعدم المشاركة في مظاهرات بعد اليوم، لرغبتي بالابتعاد عن الخيبات التي لازمت معظم التحركات السابقة. لكنّ للشارع قوّة تشدّني اليه، تجذبني. شاركت في اعتصام “طلعت ريحتكم” قبل أن تصبح الأعداد بالمئات، وتلقيت ضربة على كتفي من هراوة عسكري لا تزال آثارها واضحة في ظلّ قمع معنوي وجسدي يتعرّض له المعتصمين السلميين يوميا، وشعرت في تظاهرتيْ 22 و29 آب (أغسطس) بالفرحة والفخر، وفي الآن عينه بالخوف من الخيبة مجدّدا. في نقاش مع صديق، كان ثمة عتاب على عدم مشاركتي في الاعتصامات اليومية في ساحة رياض الصلح، او ساحة “الثورة” الآن، بشكل دائم، كما آثرت أن أفعل في سائر الاعتصامات المطلبية السابقة. كان طرحي أنّني أجد أنّ موقعي اليوم في مكان عملي يسمح لي بتقديم فائدة أكبر، أو بالمساهمة بشكل أفضل، في ايصال رسالة الجموع المحتشدة. ما سبق صحيح، ودقيق. ولكنّ التعليل ذاك، ليس السبب الوحيد لعدم مثابرتي على النزول اليومي الى الساحة. من عرف الشارع يدرك أنّ ليس كلّ من كان الى جانبه في تظاهرة مطلبية هو قدّيس. يدرك أنّ لدى البعض “أجندات”، يختار المرء تجاهلها للصالح العام للتحرّك. اليوم في الساحة حركات وحملات، في كلّ منها المناضل أو الناشط الذي يحاول خدمة قضية عامة، وفي الآن عينه، الانتهازي الذي يبحث عن صورة له أمام آلة تصوير ليثبت أنّه شارك في الاعتصام و”قاده”، علّه يحصِّل من وراء ذلك شيئا. في 22 آب (أغسطس)، قام بعض “قادة” التحرّك بالتبرّوء من بعض من سمّوهم “مندسّين”، وهم فتيان وشبّان عراة الصدور يقفون عند الخطّ الأمامي، يهتفون بأعلى الصوت للمطالب الاقتصادية والاجتماعية، قبل المطالب البيئية. من تكلّم مع بعض هؤلاء لمدّة ثوان معدودات، يدرك أنّهم ليسوا أزلام زعيم أو آخر يهدفون لإفشال التحرّك، بل هم فقراء هذا الوطن، يعانون منذ سنين طويلة من غياب المياه والكهرباء وفرص العمل… والدولة، أما اليوم فــ”تطمرهم” النفايات! اليوم يعيش هذا التحرّك مرحلة الفرز الداخلي، حيث باتت الصورة أوضح فيما يخصّ من يهدف الى الصالح العام وبين من “يُستزلم”، أو بالحريّ تصرّفاته توحي بذلك، من منظّمي التحرّكات. اليوم تفرز هذه الحملات من يحاول أن يوحّد المطالب فيها، ومن يقوم بحركات استعراضية لا هدف محسوب لها ولا نتيجة، سوى اثلاج قلوب أهل السلطة. اليوم يبان الفرق أوضح بين من ينادي بمطالب “بديهية”، وهي المطالب التي يفترض أن ينادي بها كلّ عاقل، وبين من يحاول أن يضيّع التحرّك بتصرّفات “مشبوهة” لا تؤدّي إلّا الى الاستئثار، وإضعاف “نسمة” التغيير التي لاحت بعد تظاهرة 29 آب (أغسطس) الماضي. اليوم الفارق كبير بين من اتّهم بأنّه “مندسّ” لمجرّد خروجه عن طاعة زعيم طائفي، وبين من هلّل فرحاً لأنباء عن دعوة جيفري فيلتمان، رئيس الدائرة السياسية لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة، لجلسة بغية “معرفة أبعاد التحركات الجارية تحت عنوان: طلعت ريحتكم”. من صنّفه البعض “مندسّاً” هو ابن هذا الشعب ورافعة هذا التحرّك، بينما من نصّب نفسه “قائد ثورة”، كرمى أهواء سفارة هنا وهناك، إنّما هو من اندسّ فعلاً، بين الباحثين عن بناء دولة، وتحقيق بعض من عدالة اجتماعية طال انتظارها. غداً، كما البارحة واليوم، أنزل الى الساحة ولا أجد أقرب من “المندسّ” إليّ. مطالبه ومطالبي سيّان: القضيّة ليست مجرّد قضية بيئية، ولا هي تتعلّق بانتخاب رئيس لا يقدّم ولا يؤخّر إلّا في حسابات البروتوكول والمحاصصة الطائفية. البيئة جزء من سياسة اقتصادية اجتماعية رسمها حكّام هذي البلاد منذ اتفاق الطائف حتّى اليوم، والمشكلة البيئية هذه لن تحلّ سوى ضمن منظومة تغيير هذه السياسة الاقتصادية والاجتماعية، وليس اصلاحها أو “ترقيعها” ! اليوم، المجد ليس لناشط مدني يحاول صنع اسم له، اليوم… “المجد للمندسّين”!

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This