يقدم مؤتمر الأمم المتحدة حول تغير المناخ الذي سيعقد في باريس في شهر كانون الاول (ديسمبر) المقبل، فرصة مؤاتية لاتخاذ الخطوات المناسبة لحماية الأجيال القادمة من النتائج الخطيرة لتبعات تغير المناخ، علما أن العديد من الاقتصاديين لا يؤمنون بآلية التعهد والتقييم الحالية المتبعة في نظم حماية البيئة، ويؤيدون تطبيق نظام الحد من انبعاثات الكربون المعمم بدلا من ذلك، وفي الوقت الذي يرفض فيه بابا الفاتيكان في رسالته هذا الحل، فإن مهاجمته للابتكار التكنولوجي والرأسمالية، قد لا تكون حلا فعالا للتغلب على الجمود الحالي الذي يخيم على المفاوضات العالمية المناخية، وستكون مسألة التغييرات المناخية في المتوسط على رأس نشاطات هذا المؤتمر. يغطي البحر الأبيض المتوسط أكثر من 2.5 مليون كلم2، ويصل طول سواحله إلى نحو 46.000 كلم. وتضم البلدان المتوسطية 425 مليون نسمة من السكان، إلى جانب 170 مليون سائح يفدون إليها كل عام، اضف الى ذلك أن نحو 145 مليون نسمة، أي قرابة 35 بالمئة من مجموع سكان المتوسط، يعيشون في المناطق الساحلية. وهو من أغنى البحار في العالم من حيث التنوع البيولوجي، إذ تعيش فيه نسبة 7.5 بالمئة من مجموع الأنواع الحيوانية و18 بالمئة من كل النباتات البحرية، رغم أنه يغطي فقط 0.7 بالمئة من المساحة الإجمالية للمحيطات. وتضم نباتات وحيوانات المتوسط أنواعاً من المناطق المعتدلة وشبه الاستوائية على حد سواء، علماً بأن نسبة 30 بالمئة منها هي من الأنواع المستوطنة. وتتعرض هذه الأحياء والنباتات الموجودة في عمق وعلى شواطىء البحر المتوسط بشكل يومي لانعكاسات التغيرات المناخية، حيث تشهد المنطقة ارتفاع مستوى سطح البحر، وموجات جفاف ثابتة ومتكررة، ونقصا عاما في هطول الأمطار، يليه نقص في تدفق الأنهار وتسرب المياه المالحة، ثم تملح المياه الجوفية (يتوقع أن موارد المياه ستنخفض بنسبة 80 بالمئة بحلول 2070) اضف الى ذلك تغييرات في الموائل المائية (ان ازدياد درجة حرارة الماء والحموضة وارتفاع نسبة الزئبق والمعادن الصناعية السامة الاخرى، وآلاف الاطنان من البلاستك في عمق البحر المتوسط ستؤدي حتما الى تغيرات كبيرة في الموائل الساحلية والنظم الإيكولوجية). ولعل غزارة الأمطار المسببة للفيضانات وتآكل التربة، والنقص الخطير، على المدى الطويل، في رطوبة التربة واستفحال التصحر ستزيد بشكل كبير. مثل هذه الظواهر تؤثر مباشرة على كمية ونوعية المياه العذبة السطحية، منها والجوفية في منطقة المتوسط، وتشكل تهديدات خطيرة على صحة الإنسان بشكل خاص، والحياة البيئية عامة. هل نتجه نحو التصحر الشامل؟ تؤكد معظم البحوث العلمية انه إذا استمر انبعاث غازات الاحتباس الحراري على حاله، فمن المتوقع أن ترتفع درجات الحرارة في العالم بشكل أسرع خلال القرن الحالي، وتشير هذه الدراسات الى أن منطقة البحر المتوسط ستصاب بموجات حر شديدة وجفاف واسع. وتؤكد أيضا أن انبعاث الغازات، وخصوصاً غاز ثاني أوكسيد الكربون الناجم عن احتراق الغاز الطبيعي والفحم والنفط، أي ما يسمّى بالوقود الأحفوري، هو السبب الرئيس لارتفاع درجة حرارة الأرض، وما ينجم عن ذلك من كوارث طبيعية كالجفاف والحرائق والفيضانات والانهيارات الأرضية واندثار الغابات وارتفاع مستوى مياه البحار. وتشير التقارير إلى أن حصة منطقة حوض المتوسط من التغيُّرات المناخية تتمثَّل في حدوث موجات حرارية ستساهم في تحويل مناخ هذه المنطقة إلى صحراوي جاف مع حلول العام 2025. أكثر حرارة وجفافا تشير معظم التوقعات إلى المزيد من الأمطار في فصل الشتاء (هطولات مطرية غير منتظمة)، وتقل في فصل الصيف فوق المنطقة ككل. وثمة سمة مشتركة في الكثير من التوقعات في انخفاض كمية الأمطار السنوية فوق جزء كبير من منطقة البحر الأبيض المتوسط، على الرغم من ذلك، فإن المناطق التي تتلقى المزيد من الأمطار قد تغدو اكثر جفافا بسبب زيادة التبخر والتغيرات في التوزيع الموسمي لهطول الأمطار وكثافتها، وهذه الموجات من الجفاف والحر الشديد قد تتكرر في المنطقة. وقد ترتفع معدلات درجات الحرارة حتى عام 2100 تقريبا بمقدار 5 درجات، وتشمل كافة البلدان على شواطىء المتوسط. وسيؤدي هذا الارتفاع في درجة حرارة الارض، الى ارتفاع مستويات مياه البحار والمحيطات في العالم كله وستذوب الأنهار الجليدية. الامر الذي من الممكن أن يؤدي في عام 2100 الى ارتفاع مستويات البحر بما يقرب المتر. ونتيجة لذلك، فإن بعض المناطق المنخفضة الساحلية سوف تختفي بسبب الفيضانات أو التآكل. أكثر المناطق تضررا ستكون منطقة دلتا النيل (مصر)، والبندقية (ايطاليا) وتسالونيك (اليونان)، حيث أن مستويات مياه البحر في هذه المدن قد ترتفع بمقدار لا يقل مرة ونصف اكثر عما هي عليه في أماكن أخرى. ظواهر مناخية غريبة برد وحر شديدين، حرائق كبيرة، أعاصير، أمطار في فصل الصيف، اختفاء بحيرات، موت جماعي للحيوانات الثدية والطيور، هجرات متتابعة وكثيفة لحيوانات بحرية وبرية، عواصف رميلة، فيضانات مستمرة، ثلوج في مناطق صحراوية، زيادات في التعرية والملوحة، نقص شديد في كميات المياه السطحية والجوفية (مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وسوريا ومالطا ولبنان)، ومثلها في اوروبا بلدان عانت من موجات حر أودت بحياة المئات من البشر (اسبانيا واليونان وإيطاليا) صيف 2015، كما ان الارتفاع في مستوى سطح البحر 0.5 متر فقط، قد يؤدي الى فيضانات في الجزء الغربي من خليج (كرواتيا) والبندقية (ايطاليا). وعلى الرغم من أن هذه الظواهر غريبة جدا، الا ان كل ذلك كان متوقع كنتيجة حتمية للتغيرات المناخية في منطقة البحر المتوسط. لبنان والتغيّرات المناخية تُظهر المؤشرات الرئيسية لتغيّر المناخ في لبنان وجود تهديد كبير، وقد تجلت آثار هذا التغيّر من خلال زيادة في حرائق الغابات، وتناقص الناتج الزراعي (انخفض انتاج محصولي الذرة والقمح في كل من اليونان وفرنسا واسبانيا في السنوات الاخيرة بمعدل 25 بالمئة)، ويرجح حصول تصحّر كامل حتى عام 2100، وفقدان الغطاء الثلجي لبعض الجبال نتيجة الإحترار العالمي من جهة، والإرتفاع المطَّرد في درجات الحرارة من جهة أخرى. (معدّل المتساقطات المائية في لبنان يشهد منذ العام 1993 تدنياً فيما هناك ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة وانخفاض في مستوى المياه الجوفية في لبنان، اضافة الى جفاف العديد من الينابيع والمساحات الرطبة، كما أن الانهار وأهمها نهر الليطاني قد دخلت مرحلة الجفاف، ويعد الجفاف الذي شهده لبنان في شتاء العام 2014 أكبر مثال على ذلك). كما يتوقع أن التغيّر في المناخ سيؤدي إلى زيادة في الأوبئة والحشرات وحرائق الغابات التي هي في ازدياد مستمر عاماً بعد عام، إلى درجة أن معظم غابات لبنان معرّضة أن تختفي لتحلّ مكانها أراضٍ عشبية، بالإضافة إلى ازدياد اعداد الحشرات خلال الموسم الزراعي الواحد إلى درجة تصبح مكافحتها أمراً مستعصيا. تلوّث الهواء لقد أظهرت الدراسات أخيراً، أن تلوّث الهواء في لبنان تخطّى المعدّلات السنوية، مسجلاً منذ العام 1993 ارتفاعاً ملحوظاً وصل هذا العام إلى ثلاثة أضعاف النسبة المقبولة التي حدّدتها منظمة الصحة العالمية. كما أظهرت الدراسات وجود نسب مرتفعة جداً من ثاني أوكسيد النيتروجين، وتعتبر وسائل النقل في لبنان المصدر الأول لتلوّث هوائه الناتج بشكل أساسي عن الانبعاثات التي تسبِّبها السيارات، يضاف إلى ذلك محطات توليد الطاقة التي تستعمل أسوأ أنواع الوقود، والمولِّدات المنتشرة في الأحياء التي تزيد من نسبة تلوّث الهواء، فيما يحتل قطاع الصناعة، المرتبة الثالثة في تلوّث الهواء، والحارقات المنزلية المرتبة الرابعة، والغبار الناتج عن الكسارات والمقالع إضافة إلى الحرائق في الأحراج والغابات والانبعاثات التي تصدر عن عمليات الحرق في مكبات النفايات. تراجع الغابات والزراعة لقد كانت الغابات قبل 25 سنة تغطي 20 بالمئة من مساحة لبنان، واليوم قد انخفضت إلى نحو 7 بالمئة، وذلك بسبب الحرائق وقطع الغابات. حيث قضت الحرائق بين العامين 2007 و2008 فقط على أكثر من خمسة ملايين شجرة، أي أكثر من خمسة أضعاف ما تم تحريجه خلال السنوات العشرين الماضية، وادى الجفاف بسبب هدر المياه، إلى إهمال نحو 40 بالمئة من الأراضي اللبنانية الصالحة للزراعة، فانجرفت التربة وأصبحت الأرض صحراء قاحلة. وأشار تقرير “الخطة الوطنية لمكافحة التصحر” الذي صدر عام 2003، إلى أن 60 بالمئة من الأراضي اللبنانية معرّضة لخطر التصحّر. وقد أدّى الاستخدام الكثيف للأسمدة والمبيدات الكيماوية بلا قيود جدية، وبمعدل يتخطى ضعفي المستويات المقبولة، إلى تلويث التربة والمياه واختلال التوازن الطبيعي والتسبب بأمراض عديدة. المتوسط في لبنان ملوث آلاف الأطنان من النفايات والملوّثات الصناعية تُقذف سنوياً في مياه البحر المتوسط عبر شواطىء لبنان. وتُشكل المخلَّفات السائلة مصدراً أساسياً من مصادر تلوث مياه الشاطئ اللبناني، إذ غالباً ما تُرمى في البحر من دون أي معالجة مسبقة، وهي تشمل: مياه المجاري والمياه المستعملة في المصانع ومياه الأمطار. وقد أدّى رمي هذه النفايات بهذا الشكل، إلى تلويث مياه البحر وزيادة واضحة في كمية المواد العضوية الحية والبكتيريا في المناطق القريبة من مخارج المجاري، مع ما يترتَّب على ذلك من تأثير سلبي على الحياة النباتية والحيوانية البحرية. وتحتلّ المشاريع الصناعية والسياحية والتجارية 56 كيلومتراً من الشاطئ اللبناني، أي 23 بالمئة منه. وتشغل النفايات معظم الجزء المتبقي، حيث يصل إلى البحر يومياً نحو ألف طن منها عبر مكبّات الشواطئ أو الأنهار والسواقي. ويصب في البحر كل يوم نصف مليون متر مكعب من مياه المجاري، غير أن المشكلة الكبرى تمثلت في تسرب النفط منذ عدوان تموز (يوليو) 2006، والذي قدّرت كميّته بنحو 30 ألف طن تقريبا. فالبقع النفطية غطّت 160 كيلومتراً من الشاطئ شمال الجية، إضافة إلى المادة النفطية التي تسرّبت إلى البحر بواسطة البوارج الإسرائيلية وشكلت بحيرات نفطية مساحتها عشرات الكيلومترات المربعة، ووصلت كثافتها إلى ما يزيد عن 40 سنتيمترا. كما تمّ اكتشاف كميات هائلة من الفيول في قاع البحر مقابل الجية. وسط ما هو قائم، يجب العمل على امتداد شواطىء المتوسط للحد من الاثار السلبية للتغير المناخي، ولكي تعود الحياة البيئية الى ما كانت عليه قبل خمسين عاما تقريبا، وخصوصا قبالة الساحل اللبناني.