تشير دراسات علم الاجتماع إلى ظهور وانتشار المشعوذين والمبصرين والدجالين في المجتمعات التي تمر بحالة أزمات شاملة وعميقة. عرفت هذه الظاهرة مجتمعات وشعوب عديدة في بلدان الشرق والغرب، خلال فترات الحروب والكوارث الطبيعية والانهيارات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، والأزمات السياسية وضعف أدوات الحكم ومؤسسات الدولة، وانتشار الغلاء وضيق سبل العيش، وازدياد نسب البطالة والفقر والتدهور الاجتماعي لفئات واسعة من الشعب، واتساع الاستقطاب بين الغنى الفاحش والفقر المدقع. لبنان يعيش حالات مماثلة، فالأزمة الخانقة تضرب كل مناحي الحياة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فانتشر المنجمون على كل مستوى، ويعتلون المنابر ويتصدرون الشاشات، ويكثر الدجالون والمشعوذون والشافون بمختلف الوسائل! واليوم، ومع التمادي في أزمة النفايات المتراكمة في شوارع العاصمة ومختلف المدن والقرى اللبنانية، وانتشار المزابل العشوائية على امتداد الجغرافيا اللبنانية، وتعميم الكارثة لتصل إلى كل بيت وعائلة وطفل ورضيع وأم حامل، ومريض ومسن، وتسخير الشاشات للمحللين والعارفين والخبراء من كل صنف ولون، نجد أن الحكومة تمادت في تعميم العمى والغموض المنهجي في التعامل مع ملف النفايات، لتبقيه منفذا للصفقات وسرقة المال العام، ولو على حساب التدمير البيئي الممنهج، ونشر المخاطر المتفاقمة المهددة للصحة العامة ولأجيال متلاحقة. وسط هذه الفوضى، والانهيار تحت وطأة الكارثة البيئية واللامبالاة الرسمية، كثر الدجالون والمشعوذون، الذين يجوبون البلاد اليوم طولا وعرضا، ويعرضون على البلديات، الحائرة في أمرها حيال هذا الملف، الذي قذفته الحكومة في وجههم في قمة أزمتها، ككتلة من نار، يعرضون أسوأ الخيارات وأبشع السبل للتخلص من النفايات. ويكثر في الآونة الأخيرة مروجو المحارق الصغيرة على البلديات هنا وهناك، وفي كثير من الأحيان، يستند هؤلاء المروجون لدعم قوى وشخصيات سياسية ونافذة في السلطة. نحذر ونرفع الصوت عاليا، ليسمع كل المسؤولين في البلديات، وعلى كافة المستويات. إن الحرق بالأساس هو مصدر لتحويل النفايات إلى غازات وجسيمات متناهية الصغر سامة وعالية الخطورة على البيئة والصحة العامة، مسببة الأمراض المميتة والمزمنة على المدى المباشر والبعيد، لهذا الجيل والأجيال القادمة. ولتحويل النفايات أيضا إلى رماد متبقي مصنف نفاية خطرة، تستوجب معالجتها والتخلص منها في مواقع مصممة خصيصا لهذه الغاية، وهي ملوث خطير للبيئة. هذه المحارق الصغيرة، غير المزودة بأي صنف من أصناف الأجهزة، التي تخفف من الانبعاثات، وتحد من التلوث المرئي وغير المرئي، الذي تنشره في الهواء الجوي، وتلوث المناطق القريبة والبعيدة، وتهدد السكان بأكبر الأخطار. وتحتوي هذه الانبعاثات على جسيمات متناهية الصغر و”نانوية” عالية الخطورة على الصحة، وتحتوي أيضا على مركبات كيميائية عالية السمية، مثل “الديوكسين” و”الفوران” والمعادن الثقيلة وغيرها من المركبات السامة، التي تسبب السرطان والتشوهات الخلقية وتخل بالغدد الصماء، وتسبب الأمراض المزمنة للجهاز التنفسي والقلب والشرايين والجهاز العصبي والكليتين والكبد. نحذر مما يروج له الدجالون والمشعوذون، وهم ينتشرون اليوم كالفطر على أرضية كارثة النفايات في لبنان، ويعرضون على رؤساء البلديات، محارق صغيرة ومتوسطة لحرق نفاياتها، مدعين أنها الحل الأفضل، وهي على النقيض من ذلك، إنها الأكثر خطورة وتلويثا وتهديدا. وبعضهم يعرض تجهيزات بدائية وشبه بدائية لتفحيم النفايات Pyrolysis. مدعين، دجلا وزورا، تحويل النفايات إلى فحم يستعمل لإنتاج الطاقة، لا تلوث ولا يبقى شيئا منها. إن هذا الادعاء شعوذة كاذبة. نذكر الجميع هنا بالقانون الأساسي لعلم الكيمياء والفيزياء، قانون “لافوازييه Lavoisier”، الذي يقول: “لا شيء يضيع، ولا شيء يخلق، إنما كل شيء يتحول”. إذن كل شيء يتحول، فمكونات النفايات عند تفحمها، تتحول إلى فحم مطلقة غازات كثيفة، خليط من مركبات غازية وبخارية لعدد كبير جدا من المواد، أكثرها يشكل تهديدا خطيرا على البيئة والصحة العامة. حذار من الوقوع في شباك الدجالين، حتى وإن لبسوا لباس “العلم”، وبعضهم، للأسف الشديد، يضرب علمه وأكاديميته عرض الحائط، مستغلا ظروف الأزمة ليصطاد في مائها العكر، مروجا لمحارق ومفاحم تشكل مصدرا كارثيا للتلوث، المرئي، وفي غالب الأحيان غير المرئي، وهذا ما يراهن عليه المشعوذون، المهرولون اليوم لتسويق بضاعتهم الخبيثة، مستظلين غيوم وضباب أزمة النفايات، وضبابية وغموض خطط الحكومة للخروج منها والتعامل معها.