لا توجد شجرة خدمت الإنسان كما خدمته شجرة النخيل، خصوصا إذا علمنا أن الإفادة منها لا تقتصر على ثمارها من التمر فحسب، بل من كافة أجزائها، بدءا من جذورها الضاربة في أعماق التربة إلى ذروتها السامقة في عنان السماء، حتى أن تلك الحواجز الفاصلة بين البساتين والمستخدمة من جريد النخيل تعطي صورة فنية لـ “واحات النخيل”، وإن استغنينا يوما عن هذه المنتجات، فلن ننسى تلك الروابط الوثيقة بين الانسان الصحراوي والنخلة عبر مئات السنين.   صناعة السعفيات… ثرات المناطق الجنوبية

هي صناعة منتشرة في الولايات الجنوبية في الجزائر، وبخاصة في المناطق المعروفة بكثرة النخيل، وهي عبارة عن أوراق سعف النخيل تجمع وتصنع باليد بطريقة تجديلة عريضة تضيق أو تتسع باختلاف الإنتاج، وتتشابك أوراق السعف مع بعضها بعد أن تتحول إلى اللون الأبيض نتيجة تعرضها للشمس، وقد كان السعف من ضروريات الحياة قديما، والسعف الذي يصنع في هذه المناطق هو السعف الخفيف ذو التجديلة والذي يتكون من طبقه واحده فقط. ولصناعة السعف تسميات كثيرة منها “الخوص”، و”صناعة مشتقات النخيل” لأنها مرتبطة بالنخيل. أما أدوات العمل الرئيسية في صناعة السعفيات فهي اليدان والأسنان بالدرجة الأولى، العظام والحجارة المدببة والمخايط أو المخارز التي تقوم مقام الإبرة بالدرجة الثانية. السعفيات جزء لا يتجزأ من تراث ولاية أدرار (جنوب الجزائر)، فمعظم الأدوات المنزلية التي يعتمد عليها في الأكل والشرب والتنقل والزينة، كانت تُصنع جميعها من سعف النخيل، حيث لا يكاد يخلو بيت من البيوت الشعبية من واحدة أو أكثر من هذه المصنوعات، وان كان البعض لا يستخدمها إلا لزينة البيوت الآن، كما أنها لا تزال حرفة للعديد من النساء اللواتي ما زلن يتشبثن بتراث الأجداد وأصالة الماضي العريق، ويحافظن على هذه المكنونات من الاندثار، حيث يقمن بإطلاق موهبتهن في غزل وحياكة صناعات مختلفة من السعفيات بأشكال وأحجام عديدة من أهمها “الحصير والسلال والمظلة والمروحة والأطباق والقنينة والقفة”، والتي تتميز بأشكالها الجميلة وألوانها البهية والتي تلاقي عادة استحسانا وإقبالا جماهيريا كبيرا، خصوصا من المهتمين بالتراث.   طريقة صناعتها
palm_leaves2
تقول السيدة خديجة التي تحترف هذه الصناعة منذ 60 سنة لـ Green area إن “للسعف استعمالات عديدة حسب موقعه من النخلة، فالذي يقع في قلب النخلة تصنع منه السلال والسفرة، والنوع الذي يليه أخضر اللون يستعمل لصناعة الحصير وسلال الحمالات الكبيرة والمصافي والمكانس وغيره، ومن الجريد تصنع الأسرة والأقفاص والكراسي”. وأضافت “في البداية يتم جمع سعف النخيل من المزارع، ويتم صبغه وتلوينه بألوان مختلفة، أما القلب فلا يتم في العادة صبغة ويترك على حاله باللون الأبيض، ثم نقوم بعملية تهذيبه وتشذيبه في اللهجة المحلية (نقشمه)، ويترك ليجف في مدة تستغرق ما بين 3 إلى 4 أيام، ثم نقوم بعملية صبغ السعف في قدر خاص بألوان مختلفة، أهمها الأخضر والأحمر والأزرق، يصنع منها أشكال مختلفة أهمها: الأطباق التي يوضع فيها التمر والفواكه وهي مستديرة الشكل بألوان مختلفة، والسلال وعادة ما تكون أشكالها مستديرة وعميقة بعض الشيء، وهي ذات أحجام ومساحات مختلفة تستخدم لنقل التمر أو حفظ الملابس، و(المجبة) أو (المكبة)، فهي مثلثة الشكل وتستخدم لتغطية الأطعمة حتى لا تطاولها الحشرات أو الغبار. والمروحة يتراوح حجمها بين الصغير والكبير وتستعمل للتهوية وترطيب الجو. والعلقة سلة من السعف لها يد طويلة يعلقها الرجل في رقبته ويصعد بها على النخيل لجمع التمر. والجراب يأخذ الشكل المستدير ويشبه الأواني الحديثة في العمق، ويستخدم لحفظ التمر ونقله من مكان لآخر. والفل هي شبيهة بالقفة وتوضع فيها أشياء سرية، أما السرود فهي دائرية الشكل تستخدم كمائدة يوضع عليها الطعام، وتكبر وتصغر حسب حاجة الأسرة، وقد اختفت السرود حاليا وحلت مكانها مفارش النايلون والموائد”. تقول خديجة إن “النساء كن يتعاون عند تزويج إحدى بناتهن في صنع الأدوات المختلفة من السعف، كجهاز لها تأخذها معها إلى بيت الزوجية”، مشيرة إلى أن “العديد من الأمهات الصحراويات لا زلن يحرصن أن يعلمن بناتهن أسرار صناعتها، حيث تبدأ البنات الصغيرات تعلم صناعتها بأخذ القطع الصغيرة المتبقية من مخلفات سعف النخيل، ومحاولة تقليد أمهاتهن بحركة أيديهن في العمل”.   القفة السعفية التقليدية
palm_leaves3
لم تستبدل القفة التقليدية المصنوعة من سعف النخيل منذ قرون، حيث تحافظ أغلب البيوت الصحراوية عليها من أجل وضع مقتنياتها من الخبز والخضر والفواكه وغيرها من المواد الاستهلاكية. القفة التي لا تزال صامدة في وجه عصر السرعة، حافظت على مكانتها التي تنافسها عليها الأكياس والحقائب المصنوعة من القماش والبلاستيك، على الرغم من قلة عرض بيعها في الأسواق والمحلات وارتفاع أسعارها، بحيث تتراوح ما بين 500 و1000 دينار جزائري (ما يساوي ما بين 5 و 10 دولارات اميركية) ويرجع أصحاب المحلات وتجار الأسواق سبب قلة عرض هذه القفة للبيع إلى نقص عدد الحرفيين الذين لا يزالون متمسكين بهذه الحرفة. يقول احد الباعة بأن القفة لم يتغير شكلها ولا حجمها، ما عدا الألوان التي أضيفت إليها، لتحدث الاختلاف بين القفة والأخرى. وتعود صناعة القفة التقليدية إلى العهد العثماني حيث لم يكن لها أي منافس، وتعلقت العائلات الجزائرية بها وصاحبتهم حتى في التوجه إلى الحفلات والزيارات في المناسبات والمستشفيات، أما اليوم فلم تعد القفة قادرة على القيام بوظائف أخرى غير التسوق بها في أسواق الخضر والفواكه، مع انتشار الأكياس البلاستكية بمختلف الأحجام والألوان، وقد تراجع دور القفة بعض الشيء بسبب أن الكيس البلاستيكي يفي بالغرض. وعلى الرغم من ذلك، لا تغيب مشاهد حمل القفة في اليد لتوضع في الصندوق الخلفي للسيارة، من أجل تقليص عدد الأكياس البلاستيكية التي تسبب التلوث، ولهذا فالقفة التقليدية صديقة للبيئة بشهادة الباحثين والمختصين.   موهبة ومهارة
palm_leaves1
من يقوم بجولة ميدانية في أسواق بعض المدن الجنوبية في الجزائر، يجد تلك المهارات الحرفية وقد حولت المحلات إلى متاحف مصغرة تشاهدها بنفسك وأنت تلف بين الأزقة والأماكن الضيقة، فترى فجأة الأطباق والقفاف وأغطية الرأس بأشكال هندسية تلبس ألوان الطيف الساحرة، مصنوعة بسحر خيالي يندهش المرء كيف تحكم الإنسان القديم بمثل هذه الألوان، وكيف استطاع أن يجمعها من عدم، وما هو سر صمودها قروناً من الزمن ولا تزال ماثلة للعيون ومشغلة للحرفيين المبدعين، لكونها منتجات يدوية تتطلب موهبة ومهارة، حيث يقبل على شراء هذه المنتجات اليدوية عدد من المواطنين والزوار والسيـاح.   من حرفة إلى فن   لم تعد صناعة السعفيات مقتصرة على ما تنتجه الورش الصغيرة فحسب، بل تعدت ذلك إلى معاهد الفنون الجميلة التي باتت تعنى مؤخرا بهذه المهنة التقليدية، فقد تحول هذا العمل إلى فن له قيمته، فتطورت استخدامات السعف من احتياجات الإنسان التقليدية إلى تحف ذات أشكال وألوان زاهية ونقوش جميلة وذات أغراض متعددة تضيف للمنازل والحدائق مساحة جمالية، كما شمل أيضا صناعة بعض الأثاث.   حرفة مهددة بالزوال   Green area التقى إحدى المبدعات في فن السعف، فقالت “كانت الصناعات الحرفية من سعف النخيل مشهورة إلى عقد السبعينيات من القرن الماضي، حيث اعتمدت اعتماداً شبه كلي على المنتجات المحلية من متطلبات المواطنين وخصوصا من المفروشات والأواني والأدوات المنزلية”. وتضيف: “خذي مثلاً فراش الحصير المصنوع من سعف النخيل والذي كان يغطي احتياجات سكان ولاية أدرار (جنوب الجزائر)، ولكنه أصبح اليوم من الماضي، وربما ينقرض في المستقبل بعد أن كان يستخدم للعديد من الأغراض من أبرزها فرش المساجد والأكواخ والدواوين وأماكـن التجمعات”. وتعرب عن أسفها الشديد للغزو الخارجي الحاصل على حساب السوق المحلية “لأن الصناعات الحديثة جاءت ببدائل غير صحية وقضت على منتجات سعف النخيل التي كانت تملأ الأسواق”.  

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This